رأينا في العدد السابق، روعة وغزارة المعاني في كلمة “فُرِجَت”، وعلمنا أن ما يضمن لنا أن كل ضيقة يعقبها فرج، وكل مشكلة يتبعها حل، هو أن الله القدير المحب يتحكَّم في درجة الضيق وفي زمن الضيق، ولهذا فللشاعر الحق أن يقول:
ضاقت ولما استحكمت حلقاتها
“فُرجت”، وكنت أظنها لا تُفرج
وفي هذا العدد نستكمل هذا الموضوع الهام، لنعرف أمرًا هامًا عن الضيق كثيرًا ما أخفاه إبليس، وخطرًا رهيبًا وقت الفرج علينا أن نحذره ونتفاداه.
“فُرجت” والإخفاء
نجح إبليس - للأسف - في أن يُصدِّر صورة ذهنية لعقولنا، بأن الله يكون واضعًا ساقًا على ساقٍ (رِجل على رِجل) وقت مشاكلنا وضيقاتنا، وأنه يستلذ بآلامنا ويستمتع بذُلِّنا، بل وأنه يتعمد أن يعقِّد خيوط مشاكلنا لكي يمدّها أطول فترة ممكنة، والسبب - من وجهة نظر إبليس الكذاب وأبو كل كذاب – هو أن الله يفعل هذا لكي يجبرنا على استجداء رحمته، وعلى طلب تدخلاته، وعلى أن “نشحت” منه فَرَجَهُ!!
وهذا بكل تأكيد عكس الحقيقة تمامًا، لأن الصورة الذهنية التي ينتجها إبليس، تخفي أهم جزء فيها، وهو مشاعر الله وقت الضيق، وهو أمر غاية في الأهمية، لأنه إذا استطاع إبليس أن يخفي هذه المشاعر، سيتمكن بسهولة من تحطيم منصات الدفاع الإيماني لنا، ووقتها ستهتز صورة الله المحب الصالح في أعيننا، وستفقد كل وعوده الوفيرة فاعليتها في حياتنا.
وهذا ربما يفسِّر حالتنا، عندما نستقبل وعود الله الغالية لنا وقت الضيق، مثل كلام الله على فم أليهو «ويَقُودُكَ مِنْ وَجْهِ الضِّيقِ إِلَى رَحْبٍ لاَ حَصْرَ فِيهِ» (أيوب36: 16)، أو كلام الله على فم داود «يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبُ لَهُ، مَعَهُ أَنَا فِي الضِّيقْ، أُنْقِذُهُ وَأُمَجِّدُهُ» (مزمور91: 15)، ولكن للأسف لا نستطيع إدراك معاني هذه الوعود بشكلها الكامل، ونظنها حبرًا على ورقٍ، أو مجرَّد كلام!!
“فُرجت” والمشاعر
والحقيقة إن من يلقي نظرة على مشاعر الله وقت الضيق؛ والتي يحاول أن يخفيها إبليس عن البشر، سيدرك بما لا يدع مجالاً للشك، أنها أبعد ما تكون عن مشاعر التجاهل أو الشماتة أو التشفي أو السلبية، حتى لو كان هذا الضيق بسبب خطإ الإنسان نفسه، والدليل في كلام إشعياء النبي الذي يصف هذه المشاعر قائلاً: «فِي كُلِّ ضِيقِهِمْ تَضَايَقَ، وَمَلاَكُ حَضْرَتِهِ خَلَّصَهُمْ» (إشعياء63: 9)، وأيضًا في كلام الرب نفسه الذي جاهر بمشاعره شارحًا: «سَمْعًا سَمِعْتُ أَفْرَايِمَ يَنْتَحِبُ: أَدَّبْتَنِي فَتَأَدَّبْتُ... مِنْ أَجْلِ ذلِكَ حَنَّتْ أَحْشَائِي إِلَيْهِ. رَحْمَةً أَرْحَمُهُ، يَقُولُ الرَّبُّ» (إرميا31: 18، 20).
وهذا أمر يثير الاستغراب، فالله لا يهتم فقط بأن ينظر إلى الضيق (العلم بالشيء)، ولا أن يخلِّص من الضيق (النتيجة النهائية)، ولكنه يتضايق ويحن ويتألم وقت الضيق، رغم أنه يعرف تمامًا طريقة وحتمية نهايته، وبالتالي فمشاعر الله معنا وقت الآلام والأزمات، ليست كما يصورها إبليس، ولكنها تكون ممزوجة بحبِّه وصلاحه الذي لا يُقدَّر، وعلى حَلِّه وفرجه الذي سيأتي ولن يتأخر.
ولهذا لا نتعجب كثيرًا، عندما نجد الرب يسوع المسيح - الله الظاهر في الجسد - وهو يتألم مع الأختين، ويبكي مع المُعزّين (يوحنا11: 35)، ويتأثر بشدة نتيجة مرض ووفاة لعازر حبيبه، رغم أنه كان يدرك تمامًا أنه بعد دقائق سوف يقيمه!! فمشاعر الله وقت ضيقنا، هي الضمان لنا على أننا كما عانينا وتوجَّعنا لأنها ضاقت، فسيأتي الوقت (هنا أو في الأبدية) أن نستمتع بروعة أنها “فُرجت”.
“فُرجت” والخطر
وهنا نأتي للفكرة الأخيرة، وهي الخطر الذي نكون معرضين له أوقات الراحة والفرج، والذي يكمن في أن الإنسان يكون قريبًا جدًا من الله وقت الضيق، ويفكِّر ألف مرة قبل أي خطوة عصيان أو تمرد، ولكن حين يأتي الفرج، وتُحَلّ المشكلة، يبدأ في فك جماح شهواته المكبوتة، ورغباته العاصية، ويُخرِج الوجه الحقيقي له، ولسان حاله مبتسمًا: هيا لفعل الخطية، فقد “فُرجت” المشكلة المستعصية!!
وهذا بالضبط ما حدث مع فرعون مصر، فبعد ضربات كثيرة موجَّهة من الله القدير عليه وعلى آلهته الوهمية، وبعد أن تضايق بشدة من مزاحمة الضفادع له في بيته وملابسه ومضجعه، فإذ به يطلب من موسى وهارون أن يصليا لأجله، لكي يرفع الله عنه هذا البلاء، وبالفعل يستجيب الله الحنان الرقيق «فَفَعَلَ الرَّبُّ كَقَوْلِ مُوسَى. فَمَاتَتِ الضَّفَادِعُ مِنَ الْبُيُوتِ وَالدُّورِ وَالْحُقُولِ»، ولكن نفاجأ برد فعل فرعون الغريب بعدها: «فَلَمَّا رَأَى فِرْعَوْنُ أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ الْفَرَجُ أَغْلَظَ قَلْبَهُ وَلَمْ يَسْمَعْ لَهُمَا، كَمَا تَكَلَّمَ الرَّبُّ» (خروج8: 13، 15)، فحصول الفرج له بدلَ أن يوجِّهه إلى الشكر والامتنان، على هذا المعروف والإحسان، فإذ به يفعل العكس، ويتعمد التمرد والعصيان.
وإذا كان الخطر حاضرًا مع فرعون، فإنه يتضاعف في وقتنا الحالي، فقلوبنا - أو قلبي أنا على الخصوص - ليس أقل قساوة من قلب فرعون، فنحن معشر البشر نكون أقرب ما يمكن لإلهنا وقت ضيقتنا، وتكون “هوائيات antenna” آذاننا حساسة لكل همسة إلهية، لكننا للأسف نتناساه وقت الفرج، وتكون أذهاننا عنه بعيدة وملهية!!
عزيزي القارئ، كلٌ منا تذوق مشاعر الألم والحسرة والحرمان وقت الضيق، ولكن ليفتح الرب أعيننا لنتعرف على مشاعره هو وقت ضيقنا، ووقتها سيبقى لوعوده طعم رائع، وستصبح كلماته لها فاعلية مجيدة. وفي نفس الوقت علينا أن نحذر من أوقات الفرج، التي تحمل في طياتها فيروسات الكبرياء والعصيان والاستقلال عن الله، فصحيح أننا نتمنى أنها تكون “فُرجت”، ولكن لنحترس من الخطر بعد أن تكون “فُرجت”.
على قد ما تذمرت من كل ضيقاتي ومن صعوبة الأحوال
وعلى قد ما زهقت من الألم والشوكة اللي بتهد الجبال
لكني جايلك بعد ما شفت مشاعرك ولهفتك
وضماني في وعودك وأنَّاتك وحنِّيتك
وباعتذر لك عن كل لوم وشك في محبتك
حصَّنني من خطر البعد عنك وعيشه العصيان والاستقلال
وقربني منك وقت الفرج، أكتر من وقت الضيق والأهوال