تألمت المطوبة مريم كثيرًا في حياتها، لكن أقسى هذه الالام وأفظعها كانت وقت أحداث الصليب، سواء أثناء محاكمته أو جلده أو صلبه، حيث ظهر شر الإنسان بفظاعته، وبغضته الشديده لابن الله، وأيضًا تركه التلاميذ كلهم وهربوا، لكن الروح القدس يذكر موقف بطولي لبعض النساء منهم أمه المتألمة، كما هو مكتوب: «كانَتْ وَاقِفَاتٍ عِنْدَ صَلِيبِ يَسُوعَ: أُمُّهُ، وَأُخْتُ أُمِّهِ، مَرْيَمُ زَوْجَةُ كِلُوبَا، وَمَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ» (يوحنا19: 25).
كان عند الصليب أربعة من العسكر ينفِّذون عملية صَلب المسيح بكل قسوة، لكن كان أيضًا أربع نساء مكرَّسات مُخلِصات، أظهرن الشفقة والمحبة والعطف، وبالتأكيد كُنَّ سبب تشجيع له، تبارك اسمه، وسط شر الأشرار وتعيرهم له.
قال أحدهم: “كانت أم المصلوب هي الأم المثالية لكل الأجيال ولكل الأجناس، حيث اعلنت وفائها ومحبتها لابنها، بالرغم من تخاذل محبيه وتلاميذه، وأصرت أن تكون قريبة منه في أشد ساعات ألمه”.
تألمت المطوبة مريم آلامًا متعددة:
1- من خيانة يهوذا الإسخريوطي، وإنكار بطرس، وترك التلاميذ له.
2- عندما قبضوا عليه في البستان وأوثقوه ومضوا به إلى المحاكمة.
3- من المحاكمات العديدة، فوقف ست مرات ليُحاكَم: ثلاث محاكمات دينية بالليل (أمام حنان، ثم قيافا، ثم مجمع السنهدريم)، وثلاث محاكمات أخرى مدنية في الصبح (أمام بيلاطس، ثم هيرودس، ثم بيلاطس ثانية).
4- من الاتهامات الباطلة التي قُدِّمت ضده أثناء المحاكمة، مثل أنه: يُفسد الأمة... يمنع أن تعطى جزية لقيصر، يُهيج الشعب (لوقا23: 2، 5)، فاعل شر (يوحنا18: 30).
5- من جحود الشعب ناكر الجميل، فالمسيح صنع بينهم آلاف المعجزات، لكن عندما أجرى بيلاطس استفتاءً، فاختاروا باراباس ليُطلق ويسوع ليُصلَب (متى27: 17-22). شيء غريب! القاتل اللص يُطلق حرًا، والقدوس البار يُصلب. لم تكن هناك رقة بل قسوة، لم يكن هناك معزين بل مستهزئين.
6- عندما أمر بيلاطس بصلبه، فالصليب يُعتبر من أقسى وأعنف الأساليب الرومانية في معاقبة المجرمين.
7- عندما جمعوا عليه كل الكتيبة، وتبادلوا الضرب واللكم والبصق.
8- أثناء جلده بتلك الجلدات القاسية التي مزَّقت ظهره، حتى صار مثل الحقل الذي حُرث بالمحراث (مزمور129: 3).
9- وهي تراه يحمل الصليب، والشوك على رأسه، وهو في طريقه إلى الجلجثة.
10- وهم يدقُّون المسامير في يديه ورجليه، وتتمزق الشرايين والأوردة ويخرج الدم بغزارة.
11- وهي تراه معلَّقًا بين اثنين من المذنبين.
12- وهي تسمع تعيير المعيرين، والْمُجْتَازُونَ يُجَدِّفُونَ عَلَيْهِ وَهُمْ يَهُزُّونَ رُؤُوسَهُمْ.
13- عندما مات هذه الميتة البشعة، معلَّقًا على خشبة، وتَعلم من الناموس أن: «الْمُعَلَّقَ مَلْعُونٌ مِنَ اللهِ» (تثنية21: 22).
14- وهي ترى آمالها قد تحطمت، فهذا الذي قال عنه الملاك: «هذَا يَكُونُ عَظِيمًا... وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ» (لوقا1: 32)، ولكنها تراه يموت.
تخيل معي: أمًّا وهي ترى ابنها الغالي على قلبها يموت أمام عينيها، معلَّقًا على الصليب، عاريًا، متألِّمًا، مُهانًا. الشوك على رأسه، والمسامير في يديه ورجليه، والدم ينزف من كل جسده الكريم. تقف عاجزة عن فعل أي شيء، لكن تنظر إليه فقط، والألم يعتصر في قلبها.
سمعت من سمعان البار، من أكثر من ثلاثة وثلاثون سنة، عبارة غريبة، وربما لم تفهم معناها في ذلك الوقت، وهي: «وَأَنْتِ أَيْضًا يَجُوزُ فِي نَفْسِكِ سَيْفٌ» (لوقا2: 35)، وجاء الوقت الذي فيه تحقَّقت هذه النبوة، فاجتاز في نفسها سيف الألم والحزن المفرط.
كانت تنظر إليه متألِّمه، وهو ينظر إليها مُشفقًا، إنها لغة العيون التي هي أبلغ وأعمق من لغة اللسان. كانت واقفة، وكان هو مُعلَّقًا. كانت صامتة لا تتكلم، لكنه هو الذي تكلم إليها، قائلاً لها:«يَا امْرَأَةُ، هُوَذَا ابْنُكِ».
هل تعلم ماذا فعل أصحاب أيوب الثلاثة عندما أتوا ليروه في بليته ليرثوا له ويعزوه؟ يقول الكتاب: «رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ وَبَكَوْا، وَمَزَّقَ كُلُّ وَاحِدٍ جُبَّتَهُ، وَذَرَّوْا تُرَابًا فَوْقَ رُؤُوسِهِمْ نَحْوَ السَّمَاءِ، وَقَعَدُوا مَعَهُ عَلَى الأَرْضِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَسَبْعَ لَيَال، وَلَمْ يُكَلِّمْهُ أَحَدٌ بِكَلِمَةٍ» (أيوب2: 12، 13). لكن المطوَّبة مريم كانت واقفة بشجاعة وصمود وثبات مدهش، بالرغم من ضعفها كامرأة. لا نقرأ أنها كانت تبكي، أو تصرخ، أو تلطم، أو تسقط على الأرض، بالرغم من قلبها الدامي والمجروح. بالتأكيد أخذت معونة إلهية خاصة، من أبو الرأفة وإله كل تعزية.
كانت الجموع تستهزأ بالمسيح، واللصان يعيرانه، والجنود يقتسمون ثيابه، وهو ينزف الدماء، لكن لَمَّا رَأَى أُمَّهُ، وَالتِّلْمِيذَ الَّذِي كَانَ يُحِبُّهُ وَاقِفًا، قَالَ لأُمِّهِ: «يَا امْرَأَةُ، هُوَذَا ابْنُكِ». ثُمَّ قَالَ لِلتِّلْمِيذِ:«هُوَذَا أُمُّكَ» (يوحنا19: 26، 27). إنه إكرام الابن لأمه (خروج20: 12)، وأيضًا المدبر الذي يرتب كل شيء، فالمسيح لم يترك لأمه أي شيء قبل موته - لا فضة ولا ذهب - لكي ترثه، لكنه كلَّف يوحنا الحبيب بالعناية بها، وهذا فيه كل الكفاية، فإنها ستجد مكانًا لتسكن وتعيش فيه، ولأن يوحنا هو الوحيد من التلاميذ الذي رجع إلى الصليب بعد هروب كل التلاميذ، فلذلك هو الوحيد الذي نال شرف الاهتمام بها كأمه، والرب بهذا التكليف له أعلن عن ثقته فيه، وعلى الأرجح أن وسائل المعيشة كانت متوفرة لدى يوحنا (مرقس1: 20؛ يوحنا18: 15).
صنع الرب يسوع مثالاً للأبناء لكي يهتموا بوالديهم ويكرموهم.
«وَمِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ أَخَذَهَا التِّلْمِيذُ إِلَى خَاصَّتِهِ» (يوحنا19: 27)، كانت محتاجة لرعاية رجل يتولى الاهتمام بها، فذهبت معه ومكثت عنده، فكان هو ابن لها، وهي أم له.
أخي.. أختي.. ليتنا نتعلم من المطوبة مريم الوفاء والثبات. ولنستمع للمسيح وهو ما زال يؤكد على قانون المحبة ويقول لنا: «هُوَذَا ابْنُكِ» أو «هُوَذَا أُمُّكَ».