كتب الراحل مصطفى أمين، مؤسِّس جريدة أخبار اليوم المصرية، في كتابه ”سنة ثالثة سجن“، وهو يناجي عصفورًا، ويبُثّ له همومه وآلامه، كان قد وقف على نافذة زنزانته، كتب مترجّيًا يقول: ”لعل العصفور يطل في عينّي ليرى أعماقي، ليرى مسيحًا مصلوبًا بلا خطية، مشنوقًا بلا جريمة، معلَّقًا على مقصلة بغير ذنب“.
العبارة بليغة، ومليئة بالمعاني الجميلة، تبيِّن شعور الكاتب، وهو معتقل ومحبوس، بالظلم الواقع عليه، ويحس في ذاته ببراءته مما نُسِب إليه، كالمسيح البار الذي «لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً» (1بطرس2: 22)، و«لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً» (2كورنثوس5: 21)، «وَلَيْسَ فِيهِ خَطِيَّةٌ» (1يوحنا3: 5). شعر الكاتب أن وجوده في المعتقل ظلم بيّن، كظلم المسيح وبرائته من اتهامات اليهود له التي قادتهم إلى قتله وصلبه. وإن كان أسلوب مصطفى أمين راقٍ وأنيق، لكن نحن نسأل: من ذا الذي يستطيع أن يعرف القلوب ويرى ما فيها؟ وهل في استطاعة العصفور الضعيف أو النسر القوي أو كل الطيور مجتمعة أن تنظر داخل قلب الإنسان وترى أعماقه؟! لذلك يسأل النبي قائلاً: «اَلْقَلْبُ أَخْدَعُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ نَجِيسٌ، مَنْ يَعْرِفُهُ؟» فتأتي الإجابة: «أَنَا الرَّبُّ فَاحِصُ الْقَلْبِ مُخْتَبِرُ الْكُلَى لأُعْطِيَ كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ طُرُقِهِ، حَسَبَ ثَمَرِ أَعْمَالِهِ» (إرميا17: 9-10). ولم يختَر الصحفي الراحل الغُراب ليرى أعماقه بل العصفور؟ وحسنًا فعل، لأن العصفور رمز للطهارة والنقاء، للشفافية والفداء. فالعصفور رمزٌ للمسيح الطاهر، وكذلك للمسيحي الغريب. ولنا في العصافير دروس غاية في الروعة، وقمة في الجمال.
1. العصفور الساهد الوحيد
«سَهِدْتُ وَصِرْتُ كَعُصْفُورٍ مُنْفَرِدٍ عَلَى السَّطْحِ» (مزمور102: 7)
والعصفور المنفرد الوحيد هنا يذكِّرنا بوحدة وحزن المسيح عندما ذهب إلى بستان جثسيماني حيث قال لتلاميذه: «نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدًّا حَتَّى الْمَوْتِ. اُمْكُثُوا ههُنَا وَاسْهَرُوا مَعِي» (متى26: 38).
ولأن المسيح هو روح النبوة، فالنبي إشعياء تنبأ عن أحزان المسيح، وذلك قبل الميلاد بـحوالي 700 سنة، فقال عنه: «رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ الْحَزَنِ، وَكَمُسَتَّرٍ عَنْهُ وُجُوهُنَا، مُحْتَقَرٌ فَلَمْ نَعْتَدَّ بِهِ» ثم أكمل: «لكِنَّ أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا، وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا. وَنَحْنُ حَسِبْنَاهُ مُصَابًا مَضْرُوبًا مِنَ اللهِ وَمَذْلُولاً» (إشعياء53: 3، 4). ويكتب إرميا النبي أيضًا عن مشاعر الحزن عند المسيح بقوله بروح النبوة: «أَمَا إِلَيْكُمْ يَا جَمِيعَ عَابِرِي الطَّرِيقِ؟ تَطَلَّعُوا وَانْظُرُوا إِنْ كَانَ حُزْنٌ مِثْلُ حُزْنِي الَّذِي صُنِعَ بِي، الَّذِي أَذَلَّنِي بِهِ الرَّبُّ يَوْمَ حُمُوِّ غَضَبِهِ؟» (مراثي1: 12).
صديقي وصديقتي: إن كنت تشعر بترك الجميع لك، وأنك وحيد بلا سنيد، فتذكَّر أن المسيح يشعر بك، ويقدِّر ما تمُرّ به، ومهما كانت أحزانك وأوجاعك، فالمسيح رفعها وحملها كلها. فقط ثق فيه، وآمن به.
2. العصفور المذبوح
«يُذْبَحَ الْعُصْفُورُ الْوَاحِدُ فِي إِنَاءِ خَزَفٍ عَلَى مَاءٍ حَيٍّ. أَمَّا الْعُصْفُورُ الْحَيُّ فَيَأْخُذُهُ مَعَ خَشَبِ الأَرْزِ وَالْقِرْمِزِ وَالزُّوفَا وَيَغْمِسُهَا مَعَ الْعُصْفُورِ الْحَيِّ فِي دَمِ الْعُصْفُورِ الْمَذْبُوحِ عَلَى الْمَاءِ الْحَيِّ» (لاويين14: 5–6).
هذه هي شريعة الأبرص يوم طُهره، فكان يذبح عصفور، ويطلق الآخر بعد غمسه في دم العصفور المذبوح. وهذان العصفوران يتحدثان بلغة بليغة عن موت المسيح وقيامته «الَّذِي أُسْلِمَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا وَأُقِيمَ لأَجْلِ تَبْرِيرِنَا» (رومية4: 25). فالمسيح لم يحزن فقط، لكنه مات أيضًا؛ وذلك هو أساس أفراحنا وأعيادنا، « لأَنَّ فِصْحَنَا أَيْضًا الْمَسِيحَ قَدْ ذُبحَ لأَجْلِنَا. إِذًا لِنُعَيِّدْ» (1كورنثوس5: 7-8).
وموت المسيح هو موضوع النبوات فمثلاً يتنبأ النبي إشعياء قائلاً: «كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى الذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ» (إشعياء53: 7). وأيضًا يتطلع يوحنا الحبيب نحو المستقبل بعين النبوة، فيكتب ما رأى فيقول: «ورَأَيْتُ فَإِذَا فِي وَسَطِ الْعَرْشِ وَالْحَيَوَانَاتِ الأَرْبَعَةِ وَفِي وَسَطِ الشُّيُوخِ خَرُوفٌ قَائِمٌ كَأَنَّهُ مَذْبُوحٌ» (الرؤيا5: 6). إن موت المسيح وعمله الكفاري هو أساس الغفران و«بِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لاَ تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ» (عبرانيين9: 22).
3. العصفور الساكن الآمن
« الْعُصْفُورُ أَيْضًا وَجَدَ بَيْتًا، وَالسُّنُونَةُ عُشًّا لِنَفْسِهَا حَيْثُ تَضَعُ أَفْرَاخَهَا، مَذَابِحَكَ يَا رَبَّ الْجُنُودِ، مَلِكِي وَإِلهِي. طُوبَى لِلسَّاكِنِينَ فِي بَيْتِكَ، أَبَدًا يُسَبِّحُونَكَ» (مزمور84: 3-4).
وهذا صورة للمؤمن الذي وجد سكنه وراحته في المسيح. لقد تطلَّع بنو قورح، فرأوا العصفور وقد وجد بيتًا بالقرب من بيت الرب، وكأنهم يقولون إن عُشًا بالقرب من بيت الرب خير من قصر بعيدًا عنه. والسنونة أيضًا، ذلك الطائر الضعيف، لكنها هناك أيضًا تضع أفراخها، وهل هناك أمن وآمان لنا ولأولادنا بعيدًا عن الرب وعن بيته؟ سُئِل أحدهم :أين تسكن؟ وأين تبيت؟ فقال في مزمور91: 1. وبالرجوع لهذا الشاهد نجد أحلى سكن بل وأجمل مبيت: «اَلسَّاكِنُ فِي سِتْرِ الْعَلِيِّ، فِي ظِلِّ الْقَدِيرِ يَبِيتُ». «وَلِبَنْيَامِينَ قَالَ: حَبِيبُ الرَّبِّ يَسْكُنُ لَدَيْهِ آمِنًا. يَسْتُرُهُ طُولَ النَّهَارِ، وَبَيْنَ مَنْكِبَيْهِ يَسْكُنُ» (تثنية33: 12). و«إِنَّمَا خَيْرٌ وَرَحْمَةٌ يَتْبَعَانِنِي كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِي، وَأَسْكُنُ فِي بَيْتِ الرَّبِّ إِلَى مَدَى الأَيَّامِ» (مزمور23: 6).
إن كل من يؤمن إيمانًا حقيقيًا بالمسيح يقينًا له مكان معه، فحتى اللص التائب وجد سكن مريح مع المسيح عندما قال له: «اليوم تكون معي في الفردوس». والرب يقول اليوم أيضًا لكل مضطرب، لم يطمئن قلبه على السكن الأبدي بعد: « لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ. أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ (الإيمان اليهودي) فَآمِنُوا بِي (الإيمان المسيحي). فِي بَيْتِ أَبِي مَنَازِلُ كَثِيرَةٌ، وَإِلاَّ فَإِنِّي كُنْتُ قَدْ قُلْتُ لَكُمْ. أَنَا أَمْضِي لأُعِدَّ لَكُمْ مَكَانًا، وَإِنْ مَضَيْتُ وَأَعْدَدْتُ لَكُمْ مَكَانًا آتِي أَيْضًا وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ، حَتَّى حَيْثُ أَكُونُ أَنَا تَكُونُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا» (يوحنا14: 1-3).
وحتى نلتقي لنستكمل دروس نتعلمها من عصافير الكتاب، النعمة معك.