أن تقول “لا” في مكانها الصحيح، ليس تمرُّدًا بل خضوعًا للقوانين الإلهية!! لكن المشكلة التي نعيشها، هي أننا نتمرد حينمًا ينبغي أن نخضع، ونخضع وقتما ينبغى أن نرفض!! وإلى مزيد من الإيضاح.
أولاً: الخضوع ليس معناه أن أوافق من حولي على كل شيء!!
يشعر البعض بالحرج والأستحياء أن يقولوا “لا” في بعض المواقف التي لا تمجِّد الله، ظنًا منهم أن رفضهم قد يُعثر الآخرين، أو خوفًا من إتهام الآخرين لهم بالتزمت، فيضطروا صاغرين للخضوع لأفكارهم ومجاراتهم فيما يفعلوه! لكن كلمة الله، تعتبر هذا النوع من الخضوع هو اشتراك صارخ في أعمال الظلمة «وَلاَ تَشْتَرِكُوا فِي أَعْمَالِ الظُّلْمَةِ غَيْرِ الْمُثْمِرَةِ بَلْ بِالْحَرِيِّ وَبِّخُوهَا» (أفسس5: 11).
والرب يسوع المسيح نفسه تصرف مرة بطريقة قد نندهش منها!! فحياته الكاملة أروع مثال للخضوع، فنقرأ عن خضوعه لوالديه وهو صبي في الهيكل «نَزَلَ مَعَهُمَا وَجَاءَ إِلَى النَّاصِرَةِ وَكَانَ خَاضِعًا لَهُمَا» (لوقا2: 51)، بل وعند الصليب، وفي أحلك اللحظات، التفت إلى أمه مظهرًا تقديره واحترامه لها مستودعًا إياها ليوحنا الحبيب. لكن ما يبدو غريبًا أنه لم يخضع لطلب أمه في عرس قانا الجليل ليعمل معجزة الخمر! والسبب أن تعليماته في الخدمة كان يتلقاها من الله الآب فقط (يوحنا6: 38). فالخضوع لا يعني أبدًا موافقه الناس - أيًّا كانوا - على كل شيء أو في أي شيء!!
ثانيًا: متى يكون التمرد فضيلة وليس خطية؟!
ما أقصده من كلمة “تمرد”، ليس التصرفات الثورية والصراخ والتكسير والتحطيم، بل الرفض المسيحي المقدس وبإصرار لكل ما يكون فيه شيء مما يأتي:
1. إذا كان يحرض على عبادة غير الله أو إنكار تجسده في المسيح: فيوما ما قرر الإمبراطور الديكتاتور نبوخذنصر أن يكون السجود لتمثاله الذهب، ومن لا يسجد سيلقى في أتون النار المُحمّى سبعة أضعاف! فلم يخضع الفتية الثلاثة قائلين «لاَ يَلْزَمُنَا أَنْ نُجِيبَكَ عَنْ هذَا الأَمْرِ. هُوَذَا يُوجَدُ إِلهُنَا الَّذِي نَعْبُدُهُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنَجِّيَنَا...» (دانيآل3: 16).
والرسول يوحنا، الوديع الهادئ، يشجِّع أولاده على الوقوف بشده ضد أولئك المنكرون للاهوت المسيح قائلاً «دَخَلَ إِلَى الْعَالَمِ مُضِلُّونَ كَثِيرُونَ، لاَ يَعْتَرِفُونَ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ آتِيًا فِي الْجَسَدِ» ثم يضيف قائلاً «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِيكُمْ، وَلاَ يَجِيءُ بِهذَا التَّعْلِيمِ، فَلاَ تَقْبَلُوهُ فِي الْبَيْتِ، وَلاَ تَقُولُوا لَهُ سَلاَمٌ» (2يوحنا1: 7، 10). وهذا ما قام به أثناسيوس ضد بدعة آريوس، الراهب الذي نادى بأن المسيح مخلوق من غير جوهر الله! فوقف أمامه أثناسيوس بشدة مُفحِمًا إياه في مجمع نيقية سنة 325.
2. إذا كان ضد المبادئ الأخلاقية والقيم الإلهية: فالخضوع للتصرفات اللاأخلاقية وعدم الاعتراض عليها في المحيطين بنا لَهو شر عظيم! وهذا الاعتراض وعدم الخضوع كان واضحًا جلًيا في كل من:
يوسف الشاب الناجح أمام غواية امرأة شريرة أرادت أن يخضع لها ويزني معها، وبالتأكيد هددته بطريقة أو بأخرى، لأنها سيدة البيت وزوجة رئيس الشرطه!! لكن يوسف الشاب تشددت حياته بالرب، وارتوى بالشركة مع الرب إلهه، فاستطاع أن يعلن تمرده على الشر قائلاً «كَيْفَ أَصْنَعُ هذَا الشَّرَّ الْعَظِيمَ وَأُخْطِئُ إِلَى اللهِ؟» (تكوين39: 9).
دانيآل الذي تحدّى النظام الملكي الفاسد، والذي أمر شباب القصر بشرب الخمر والتغذي بلحوم ذُبحت للأوثان «أطايب الملك وخمر مشروبه». رفض الخضوع لنظام يبيح “المُتع للجميع”!! وجعل في قلبه أن لا يتنجس «وأعطى الله دانيال نعمة ورحمة».
3. إذا كان ضد المبادئ الكتابية: قال الرسول بولس «اَلَّذِينَ لَمْ نُذْعِنْ لَهُمْ بِالْخُضُوعِ وَلاَ سَاعَةً، لِيَبْقَى عِنْدَكُمْ حَقُّ الإِنْجِيلِ» (غلاطية2: 5)، وكان يقصد الذين دخلوا خلسة لجماعة الرب في غلاطية وأرادوا فرض تعاليم ناموسية خاطئة بخصوص الخلاص والتبرير، فكان بولس لهم بالمرصاد وهدفه ليظل حق الإنجيل واضحًا أمام الكثيرين.
4. إذا كان ضد إتمام مسيرة خدمة الرب: قال الأعداء لنحميا وهو واقف على الأسوار يبني ويرمم: انزل لنجتمع ونحكي معًا!! وكان هدفهم تعطيل عمل الرب بل وقتله!! لكنه لم يخضع لمشورتهم وأجابهم «إِنِّي أَنَا عَامِلٌ عَمَلاً عَظِيمًا فَلاَ أَقْدِرُ أَنْ أَنْزِلَ. لِمَاذَا يَبْطُلُ الْعَمَلُ بَيْنَمَا أَتْرُكُهُ وَأَنْزِلُ إِلَيْكُمَا؟» (نحميا6: 3).
ثالثًا: كيفية التعبير عن هذا التمرد والرفض بطريقة مسيحية
1. ليكن لنا فكر المسيح حتى يمكننا أن نميِّز الأمور المتخالفة، أي متى نخضع ومتى لا نخضع «وَأَمَّا أَنْتُمْ فَالْمَسْحَةُ الَّتِي أَخَذْتُمُوهَا مِنْهُ ثَابِتَةٌ فِيكُمْ، وَلاَ حَاجَةَ بِكُمْ إِلَى أَنْ يُعَلِّمَكُمْ أَحَدٌ، بَلْ كَمَا تُعَلِّمُكُمْ هذِهِ الْمَسْحَةُ عَيْنُهَا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَهِيَ حَقٌّ وَلَيْسَتْ كَذِبًا. كَمَا عَلَّمَتْكُمْ تَثْبُتُونَ فِيهِ» (1يوحنا2: 27).
2. عبر عن رفضك بكل شجاعة دون ميوعة: أقصد ليكن لنا الشجاعة الأدبية الروحية، وهذا ما فعله الرسول بولس مع بطرس والآخرين فيقول «وَلكِنْ لَمَّا أَتَى بُطْرُسُ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ قَاوَمْتُهُ مُواجَهَةً، لأَنَّهُ كَانَ مَلُومًا» (غلاطية2: 11).
3. أظهر وقوفك إلى جانب المسيح وكلمته، وليس دفاعًا عن أرائك الذاتية الشخصية أو العقائدية «يَنْبَغِي أَنَّ ذلِكَ يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ» (يوحنا3: 30).
4. أنتقِ الألفاظ والعبارات: ولن نجد غير ربنا يسوع المسيح لنتعلم منه الذوق الراقي في ألفاظه حتى وهو يعترض، فقال لبيلاطس « لَمْ يَكُنْ لَكَ عَلَيَّ سُلْطَانٌ الْبَتَّةَ، لَوْ لَمْ تَكُنْ قَدْ أُعْطِيتَ مِنْ فَوْقُ» (يوحنا19: 11)، أو عندما قال لتلاميذه «اِصْعَدُوا أَنْتُمْ إِلَى هذَا الْعِيدِ. أَنَا لَسْتُ أَصْعَدُ بَعْدُ إِلَى هذَا الْعِيدِ، لأَنَّ وَقْتِي لَمْ يُكْمَلْ بَعْدُ» (يوحنا7: 8).
أحبائي.. ما أحوجنا إلى قوة إلهية بالروح القدس ومعونة سماوية، لنتعلم الخضوع للرب ولتكن طلبتي وطلبتك «عَلِّمْنِي أَنْ أَعْمَلَ رِضَاكَ، لأَنَّكَ أَنْتَ إِلهِي. رُوحُكَ الصَّالِحُ يَهْدِينِي فِي أَرْضٍ مُسْتَوِيَةٍ» (مزمور143: 10). بل ونحتاج أيضًا إلى شجاعة أدبية روحية مقدسة حتى نتعلم أن نرفض ونقول “لا” لكل ما لا يمجد إلهنا.