يملأني سرور خاص عندما أرى شباب عندهم رغبة صادقة في النمو الروحي، خصوصًا عندما ترتسم أمامهم نماذج عظيمة للتكريس، سواء مصورَّة على صفحات الوحي أو من تاريخ الكنيسة.
1. زمن الحلول السريعة والطرق المختصرة
لا غبار مطلقًا على الغيرة المقدسة لحياة أكثر تكريسًا للرب وخدمة أكثر للرب، لكن المشكلة في سوء فهم السبيل إلى ذلك. يوجد فينا، بوجه عام، وكشباب على وجه الخصوص، ميل طبيعي للاستعجال. ألا توافقني أننا نعيش في أيام تسير فيها أمور الحياة بوتيرة أسرع مما سبق، كأنَّ ساعة الزمن صارت أقصر مما كانت عليه في الماضي، وأصبح هناك احتياج لما نسميه الطرق المختصرة ”Shortcuts“ لكل شيء. ما كان في الماضي يستلزم دراسة وتأهيل عدة سنوات، اليوم يتوفر في تدريب مكثف في فترة أقل. ومن الخطورة أن ننسج الشهادة المسيحية على هذا المنوال؛ لأن عمل الله الذي ينجزه بنا ليس مجرد مجموعة من الأنشطة والإنجازات، لكنه ثمر حياة تُقضى في مشيئة الرب. الاجتهاد في دراسة كلمة الله وتحصيل المعرفة أمر رائع ولازم لبنيان المؤمن، لكن لا يجب أن يكون وسيلة للتميز والتألق في مجال الخدمة المسيحية. عدد ليس بقليل من الشباب الذين لديهم رغبة مخلصة في خدمة الرب، يظنون أن التحاقهم ببرنامج جيد لدراسة الكتاب هو الذي يصنع منهم خدامًا للرب؟ السؤال الذي يطرح نفسه، هل الخدمة مجرد استثمار للمعرفة؟! معرفة للكتاب ودراية للاحتياج ودراسة لفن وأسلوب أداء الخدمة... الخ؟ لا. ليست كذلك، بل هي طاعة للسيد وعمل ما يُكلِّفك به، سواء كان كبيرًا أو صغيرًا، ظاهرًا أم خفيًا، شفويًا أم عمليًا.
2. البطولة في الإيمان بالمقاييس المعتبرة
تذكر يا عزيزي أن موازين الله ليست كموازين البشر. يجب أن نضع في اعتبارنا أولاً أن الله يرى كل شيء، يرى دوافع القلب والأفكار العميقة التي تدور في أذهاننا، ويعرف المشاعر الداخلية مهما أظهر الإنسان. أما الناس فيحكمون بحسب ما يرون بعيونهم. قال الرب لصموئيل: «الإِنْسَانَ يَنْظُرُ إِلَى الْعَيْنَيْنِ، وَأَمَّا الرَّبُّ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى الْقَلْبِ» (1صموئيل16: 7).
في مجال الخدمة، يعطي الناس وزنا وتقديرًا للخدمات الشفهية والمنبرية أكثر من غيرها، هذا غير صحيح. الروح القدس أكرم شخصيات من الرجال والنساء لا نقرأ أنهم تكلموا كثيرًا، لكن فعلوا أمورًا عظيمة للرب. نحتاج لمساحة كبيرة إن أردنا أن نذكرهم كلهم، لكن على سبيل المثال نذكر من النساء ما فعلته الفتاة المسبية والمرأة الشونمية ومريم أخت لعازر وطابيثا وفيبي... أيّ تقدير للرب كان لبرزلاي الجلعادي وعوبيد أدوم الجتي ويوسف الرامي وغيرهم من الذين فعلوا أكثر مما تكلموا.
هؤلاء الأبطال - من منظور السماء - لم يروا لأنفسهم هكذا ولم يعتقدوا في أيامهم أنهم شيئًا. كانت كل مشغوليتهم بالرب ومجده لدرجة جعلتهم لا يفكرون في ذواتهم أو تقييم الآخرين لهم. المشغولية بالذات تُعد من أشهر الطفيليات الروحية التي يمكن أن تقوِّض شهادة المؤمن إن لم يستأصلها.
موازين العلا هي خير مقياس
وما يبديه الملا ما إلا انطباعات
فالسماء ترى ما لا يرى الناس
مهما بدا مدحهم مشبعًا للذات
3.الإعداد الإلهي هو أساس الخدمة المثمرة
المبدأ الذي يجب أن يتأصل في كل من يرغب بإخلاص أن يكرس حياته وطاقاته للرب، والذي لا يفطن إليه كثير من الشباب المتحمس للخدمة، هو أن قوة الخدمة وكل إمكانيات الخادم تأتي بعد إعداد إلهي عبر الأيام والسنين، وهذه القوة لا تحلّ على المؤمن بين ليلة وضحاها أو تنسكب فجأة لأداء عمل مدهش وفريد من نوعه. كما يظل الخادم – الشاب والشيخ - تلميذا يتعلم دائمًا عند قدمي المعلِّم العظيم.
كما قضى التلاميذ الإثنا عشر ثلاث سنوات مع الرب حين كان على الأرض، هكذا أيضًا قضى الرسول بولس ثلاث سنوات في البرية مع الرب وهو في المجد. رأى الرب أنه، في طريق إعداد هذا الخادم الأمين، يلزم أن يتعلم عند قدميه ليعرف جيدًا من هو ذلك الشخص المجيد الذي يخدمه، وكيف أشار عنه كل الأنبياء في القديم وآخرهم يوحنا المعمدان. لكن هل انتهت التدريبات الإلهية حين بدأ خدمته. لا، بل استمر ينمو في معرفة الرب ويتقوى بالنعمة ويتأيد بالقوة يوم وراء الآخر.
الإعداد الإلهي للخادم واضح أيضًا في العهد القديم. هيأ الرب لموسى الفرصة أن يتدرب على رعاية شعب الرب، قبل بدء خدمته العظيمة، فكان يرعى في البرية لمدة 40 سنة بحبٍّ وتواضع وحلم وطول أناة. موسى، الأمير الذي تربّى في قصر فرعون والذي تهذب بكل حكمة المصريين، موسى صاحب الشخصية القوية والغيرة الشديدة، صاحب المركز الكبير والعلم الغزير، كان يجب أن يلتحق بمدرسة الله المجيدة، كما كان على بولس، الشاب الثوري الغيور الذي تعلم منذ صباه عند قدمي غمالائيل معلم الناموس المقتدر، أن يقضي سنوات من التدريب والتهذيب في مدرسة الإعداد الإلهي.
الدروس الثمينة التي يتعلمها الخادم في مدرسة النعمة من الصعب أن نرتِّبها حسب الأولوية أو الأهمية إذ تتساوى من حيث الضرورة والفائدة. الرب قد يعلِّمنا الدرس تلو الآخر أو يستخدم أحدهم لنفهم الآخر.
أهم ما يلزم أن يتعلمه كل من يريد أن يخدم الرب هو أن يعرف الرب على حقيقته.
طريقة وغرض خدمة أي خادم للرب تتناسب مع إدراكه لطبيعة وتقديره لعظمة السيد المجيد الذي يخدمه. من يرى الرب أنه السيد العظيم على حقيقته، سيرى نفسه بالتبعية على حقيقته أيضًا، بل سينسى ذاته وهو يخدم سيده الذي يشغل كل فكره وكل مشاعره، ويعمل من أجله كل وقته بكل قوته.
يجب أن يدرك الخادم أن سر القوة والتأثير في الخدمة ليس في شعبيته أو قوة شخصيته، لا في مواهبه أو خبرته بل في قوة الروح القدس. الخادم، مهما تقدمت به العمر في خدمة الرب، لا يغيب عن عينيه هذا المبدأ الجوهري أن عمل الله لا يُنجز إلا بقوة من الله.
ما يتعلمه الخادم في مدرسة الإعداد الإلهي هو أن مجد الرب هو الغرض النهائي. الخدمة ليست وسيلة لتسديد احتياجات المخدومين ولا احتياجات عند من يخدم، لكنها وسيلة بها يتمجد الله في المقام الأول ويتبعها دائمًا بركة للنفوس سواء من يخدم أو من يُخدمون.