جيد أن نفهم تعريف “الحب” وكل ما تعنيه هذه الكلمة الجميلة في ضوء كلمة الله. كلمة “حب” مع أنها قصيرة لكنها مفتاح لمستودعات عظيمة وغنية. الكتاب المقدس مليء بالإشارات المتنوعة التي تلقي الضوء على موضوع المحبة، مثل: معناها ومنشأها ومقاييسها وبراهينها وتأثيرها... إلخ. على سبيل المثال: خصص الوحي أصحاح بأكمله، 1كورنثوس13، ليكلِّمنا عن المحبة المسيحية الراقية التي يفتقدها الإنسان الطبيعي غير المولود من الله. ويعتبر يوحنا في رسائله أنها الدليل القاطع على الإيمان الحقيقي. كما يحدِّثنا بطرس عن شروط جودة المحبة؛ أن تكون من قلب طاهر، بلا رياء، شديدة...إلخ. وتوصف المحبة في رسالة كولوسي بأنها “رباط الكمال”، رباط يلف باقة الفضائل ويجمعهم معًا «...وعَلَى جَمِيعِ هذِهِ الْبَسُوا الْمَحَبَّةَ الَّتِي هِيَ رِبَاطُ الْكَمَالِ» (كولوسي3: 14).
المحبة رباط الكمال
قد يُفهم هذا التعبير بمنطق أهل العالم، أن الحب “برواز” يجمِّل شكل العلاقات بين الناس أو “فيونكة” تزيَّن بها علب الهدايا، فتنغوي الناس بالشكل الخارجي بصرف النظر عن قيمة محتواها. بالنسبة لعديد من البشر أختُزل الحب في الأغاني والكلمات واللمسات والرقصات! بالنسبة للبعض الحب هو مجرد تداول كلمات رقيقة لتسهيل التعامل وتلطيف الأجواء حتى في أقرب العلاقات الإنسانية. لكن تعبير “رباط الكمال” له معنى أعمق وأصدق. ما يعرفه فئات كثيرة من البشر عن “الحب” يختلف شكلاً ومضمونًا عن الحب الحقيقي الأصيل الذي ينبع من قلوب المؤمنين الحقيقيين بالرب يسوع. الإنسان الطبيعي يظهر مشاعر الحب باعتبار أنها وسيلة لإشباع عاطفته أو لتسهيل وتجميل العلاقة مع الآخرين. “كلام الحب” من أكثر منتجات صناعة الكلام رواجًا وقبولاً في العالم وصنوفه أشكال وألوان! يمكن للإنسان أن يظهر هذا الحب المزعوم بأسلوب ناعم ورقيق - بصرف النظر عن الدوافع الحقيقية - لذلك تختلف ردود أفعال أصحابه وفقًا لمعطيات الموقف أو مدى تحقيق مبتغاه. إن لم ينَل صاحبه ما توقعه، سرعان ما يظهر “الوجه الآخر” وتتحول “الفيونكة” اللامعة إلى “شوكة” موجعة، ويستبدل الأسلوب الناعم اللطيف بأسلوب خشن وجاف، بل قد يكون في معظم الأحيان جارحًا أو عنيفًا. خلاصة الكلام أن المحبة بمفهوم الإنسان الطبيعي (غير المؤمن) هي صفة مستقلة عن باقي الخصال الحميدة ويمكن أن تُستخدم مثل فيونكة جميلة من الخارج، يبقيها كما يشاء وينزعها وقتما شاء. أما المحبة المسيحية فهي رباط، بمعنى أنها تحتضن وتضم الصفات والفضائل الأخرى في كنفها، بل تحدِّد قوتها وترسم كيفية تفاعلها معًا فتصل بالإنسان لمستوى النضوج والرقي الأدبي والأخلاقي.
هيا نتأمل معًا في هذا الحب الراقي الحقيقي الذي انسكب في قلوبنا بالروح القدس وما يحمل هذا التعبير الغني “المحبة رباط الكمال” لنرى علاقة المحبة بباقي الفضائل المسيحية السامية.
1. المحبة تحتضن الفضائل وتضمهم معًا
المحبة هي قلب الشهادة المسيحية، ودليل الولادة من الله ونوال الحياة الجديدة، وهي برهان التلمذة الحقيقية للمسيح. محبة عاملة وفعَّالة جدًا. على سبيل المثال: المحبة تدفع المُحب أن يجود ويبذل أثمن ما عنده من أجل المحبوب؛ فالمحبة أساس العطاء والتضحية. المحبة النقية العديمة الرياء هي تجسيد للصدق والإخلاص. المحبة لا تعرف النقمة بل تغفر وتصفح، وهي لا تعرف الإهانة والتحقير بل تكرم وتبارك. المحبة الحقيقية لا تسقط أبدًا، وتحتمل كل شيء. وهكذا تحتضن المحبة كل الفضائل: إنكار الذات، وطول الأناة، والوداعة، والعطاء، والرحمة، والغفران، واللطف... الخ. إن زادت محبتك وتأصلت في داخلك، حتمًا سوف تنشيء فيك أنقى الدوافع وأرقى الصفات الأخلاقية.
2. المحبة تضمن التوافق والتجانس بين كل الفضائل
ما يميِّز المحبة الحقيقية أنها تحقِّق التوازن بين كل الفضائل. على سبيل المثال: قد يستدعى الأمر أن يكون المحب حازمًا، فهو يمارس المحبة التي تواجه التسيب والتساهل وتوبخ بكل شجاعة، فهي محبة تتحمل المسئولية بوداعة، بدون قسوة أو عنف. المحبة تترفق وتحنو، لكنها لا تدلل التدليل الذي يفسد المحبوب. إن صمتك عن توبيخ صاحبك بِعِلَّة أنك لا تريد أن تفقده، هو الذي سيجعلك تفقده أنت وغيرك. محبتك لصديقك تلزمك أن تنصحه وتوجِّهه بكل جدية إن كان مزمعًا أن يأخذ قرارًا خاطئًا. فالمحبة التي بلا رياء والتوبيخ لا يتعارضان، بل يسيران جنبًا إلى جنب في توافق واتزان.
3. المحبة تجمِّل وتكمِّل الفضائل كي تظهر بقوتها وأفضل صورها
الكتاب المقدس يمتليء بالأمثلة التي ترينا إنتاج المحبة المتميز في جودته. شهد الرب أن المرأة الخاطئة التي جائت عند قدميه باكية أحبت كثيرًا فلم تكتفِ بالمشاعر التي أظهرتها بدموعها وتقبيلها قدميه بل دهنتهما بالطيب ومسحتهما بشعر رأسها. أليست المحبة الشديدة هي التي علَّمت مريم أخت لعازر كيف تضحي بأغلى ما عندها؟ وهي التي أعطت للمجدلية شجاعة نادرة وجعلت بولس ينفق حياته من أجل سيده؟ يمكن أن تجد شخصًا صادقًا في أقواله وأمينًا ومجتهدًا في أعماله، عفيفَ النظر ونظيفَ اليد، لكنه يفعل كل ذلك خوفًا من عقاب الكذب والسرقة أو عواقب التقصير والإهمال. يمكن أن يكون الواحد سخيًا في عطائه ورقيقًا في تعامله لكن بغرض كسب صداقة الناس له. لا غبار على الأمانة وضبط النفس والسخاء واللطف وغيرهم، لكن إن وُلدت هذه الفضائل من رحم المحبة الخالصة ستكون أجمل كثيرًا وأقوى تأثيرًا.
عزيزي الشاب تذكَّر أن المحبة الشديدة لا ترضى ولا تقنع بالسطحية أو الأداء الفقير الرتيب، لكنها تُسَرّ بأن تظهر كل الفضائل بأقوى وأكفأ صورة ممكنة. إن كنت متيقنًا أنك من أولاد الله وجمَّلتك نعمته بفضائل متنوعة، البس المحبة فوقهم كي تشبه سيدك. فقصد الله أن نكون مشابهين صورة ابنه عمليًا. توجد دلائل متنوعة على الإيمان الصريح، لكن أعظمهن المحبة المسيحية الأصيلة، فهي أهم علامة على الإطلاق، تؤكِّد أنك تلميذ تشبه سيدك. المحبة العاملة، والمخلصة بلا رياء، محبة لله ومحبة أخوية للمؤمنين ومحبة لعموم البشر. محبة يفتقدها الإنسان الطبيعي الذي لم تفتقده نعمة الله بعد. تذكَّر أن المحبة هي قلب العبادة لله، وقوة الشهادة عنه في العالم، كما أنها أساس الشركة بين المؤمنين.