دون ريتشي، بطل قصتنا اليوم، هو رجل مُسِنّ كما توضح الصور. وُلد في ٢٥ يونيو ١٩٢٥بإستراليا، وتجند في البحرية الإسترالية خلال الحرب العالمية الثانية، كان جنديًا عاديًا ومواطنًا كبقية المواطنين. أنهى خدمته بالبحرية ، وعمل بإحدى شركات التأمين. لم يكن في حياته ما يدعو للدهشة، أو الاهتمام. كان ريتشي يسكن في منطقة مرتفعة جدًا عن سطح البحر أسمها الجُرف، كانت معروفة بأنها مقصد من يريد الانتحار؛ نظرًا لأنها منطقة عالية جدًا وتُطل على البحر مباشرة، لدرجة أن الدولة وضعت كاميرات مراقبة في محاولة لمراقبة المنطقة والحد من ازدياد هذه الظاهرة والإقلال منها.
في عام ١٩٦٤ قرر ريتشي أن يفعل شيئًا غريبًا جدًا! قرَّر أن يقضي أغلب وقته يراقب هذه المنطقة، مراقبًا سلوكيات من يأتون إلى هناك، ويتجهون لحافة الجُرف؛ فإذا لمح أحدًا منهم مُقدِمًا على الانتحار؛ يسرع إليه متحدثًا معه بكلمات بسيطة جدًا، ثم يُقدم له دعوة ليتناول معه فنجانًا من الشاي في بيته، وهناك يتحدث معه بكل هدوء، وبحديث من القلب، مُقنعًا إياه بالتراجع عن قراره بالانتحار.
استمر يفعل ذلك لمدة ٤٥ عامًا، قضى نصف حياته في إنقاذ الناس من الموت. كرّس وخصص يومه كاملاً لمراقبة الناس، لا لينتقد تصرفاتهم، أو يلومهم، إنما ليعيد الابتسامة مرة أخرى لشفاههم. وقد أعلنت الحكومة الاسترالية أن دون ريتش نجح خلال هذه الفترة في إنقاذ حوالي ١٦٠ إنسان، بينما أفراد أسرته يقولون أن العدد تعدى ٤٠٠ شخصًا! كان بينهم وبين الموت لحظات، لكن كلمات ريتشي البسيطة وابتسامته الرقيقة من قلبه الطيب والمُحِبّ لهم جعلتهم يتراجعون عن القرار، ويعودون للحياة مرة أخرى. ومنهم كثيرين رجعوا إليه بعد سنوات ليشكروه على ما فعله معهم، ويبشرونه بأن حياتهم صارت أفضل بكثير بعد مقابلتهم معه.
ويحكي أفراد أسرته أن ريتشي كان بعدما يصل إلى الشخص الذي ينوي الانتحار على حافة الجُرف، يتكلم معه بهدوء في بادئ الأمر؛ فإذا وجده بدأ يُصغي كان يدعوه للبيت لاستكمال الحديث. أما إذا وجد لديه إصرار على إلقاء نفسه، كان يتدخل بالقوة مُمسكًا به بكلتا يديه، ويحمله بعيدًا عن حافة الجُرف، ثم يبدأ في الحديث معه، ويدعوه بعدها إلى البيت ليتحدث معه بشأن حياته، ومصيره بعد الموت. فيعود الشخص إلى بيته بقلب جديد، وفكر آخر، بعد أن تغيَّرت مفاهيم كثيرة لديه.
أما عن ريتشي نفسه فقد وصف شعوره في اللحظة التي كان يرى فيها أحدهم يتجه نحو حافة الجُرف بالقول: “لم أكن أستطع المكوث في مكاني، وأنا أرى أحدهم يتجه نحو حافة الجُرف”.
حصل ريتشي على وسام من الدولة في عام ٢٠٠٦، بعد أن ذاعت شهرته، إذ أنقذ الكثيرين وهم على حافة الموت. ومات عام ٢٠١٢، عن عمر يناهز ٨٦ عامًا، بعد أن قضى النصف الثاني من حياته في أروع عمل يمكن للإنسان أن يفعله؛ أن يُنقذ الناس وهم على حافة الموت.
أخي.. أختي
ما رأيك في هذا الرجل الذي وجد هدفًا عظيمًا لحياته؟ لقد استغل وقته أروع استغلال. كان يمكن لرجل مثله أن يستمتع بحياته في هذه المنطقة الخلابة، ويملأ عينيه بمشاهدة البحر والطبيعة الساحرة هناك. أو حتى يستمتع بالإثارة التي يشاهدها يومًا بعد الآخر، ويلتقط صورًا لهؤلاء المنتحرين قبل انتحارهم بلحظات، ويُشارك بها أصدقاؤه على صفحات التواصل الاجتماعي، ليتصدر بها قائمة الصور الأعلى مشاهدة في العالم! أو يصوَّر هذه الأحداث بالصوت والصورة ويبيعها بأغلى الأسعار للقنوات الفضائية، وينال من وراءها شهرة واسعة. لكن ريتشي قرَّر أن يكون مختلفًا. لم يكن يفعل ذلك للشهرة، أو لحصد أعلى نسبة مشاهدة، أو حتى لنوال الميداليات والجوائز التقديرية من الدولة. فعل ذلك حبًّا في هؤلاء البشر الذين ضاقت بهم الدنيا وقرّروا التخلص من حياتهم في لحظات. قرَّر أن يُنقذ أشخاصًا ربما لا يفكر فيهم أحد، أو يهتم بهم أقرب الناس إليهم. وأن يقدِّم الحب والتضحية والاهتمام لأُناس لا يعرف عنهم أي شيءعلى الإطلاق. أحبَّ الناس، معطيًا إياهم شعاعًا جديدًا من الأمل بعد أن أنطفأ كل بريق في حياتهم.
لا أستبعد أن يكون ريتشي قد اتخذ من الكلمات التي جاءت بسفر الأمثال ٢٤ شعارًا لحياته «أَنْقِذِ الْمُنْقَادِينَ إِلَى الْمَوْتِ، وَالْمَمْدُودِينَ لِلْقَتْلِ. لاَ تَمْتَنِعْ» (أمثال٢٤: ١١). فقد كان يفعل ذلك حرفيًا. ولا أستبعد أن يكون ريتشي قد قرأ قصة سجان فيلبي وأتخذ منها قدوة ومثلاً لحياته، فالكتاب يحكي لنا أن سجَّان فيلبي، بعد أن رأى أبواب السجن مفتوحة، ظنَّ بأن الجميع هربوا؛ فقرّر أن يقتل نفسه في لحظات، فصرخ بولس به: «لاَ تَفْعَلْ بِنَفْسِكَ شَيْئًا رَدِيًّا!» (أعمال١٦: ٢٨). ربما كان ريتشي يردِّد ذات الكلمات في أذن كل من يلتقيهم هناك على حافة الجبل.
أتشوَّق جدًا لمعرفة ماذا كان يقول ريتشي لهؤلاء الذين يلتقيهم على حافة الجُرف، حتمًا كان يتحدث معهم عن معنى آخر للحياة، وحياة أرقى وأسمى، مركزها ومصدرها يسوع؛ فهو الوحيد الذي يُغِّير ويبدل الحياة من البؤس للفرح، ومن الذل للانتصار، ومن الشقاء لكل معاني البهجة والسعادة والراحة.
ولنسأل في ختام حديثنا: هل فكَّرت يومًا أن تُعطي أبعادًا أخرى لحياتك؟ هل قررت يومًا أن تكون نافعًا بما عرفته وتعلَّمته من خلال إيمانك بالرب يسوع المسيح؟ هل فكَّرت يومًا أن تتحدث مع أصدقائك، وأقاربك، وجيرانك عن مصيرهم الأبدي؟ هل فكرت يومًا أن تُدخِل السرور والفرح لقلوبهم بدخول المسيح فيه؟
فكِر في الأمر أخي الحبيب، جرِّب أن تُعطي لحياتك معنى أعظم وأروع بكثير، بحديثك عن أعظم شخص يغيِّر الحياة، ويريح القلب من شقاؤه وتعاسته. ستلتقي بكثيرين على حافة الموت، يفكِّرون في الانتحار. أو غيرهم ممن يتمنّون الموت، حتى وإن كانوا يخافون منه. سيستخدمك الرب في إنقاذ حياتهم. ستلتقي بمن ماتوا داخليًا من بُغضة أقرب الناس إليهم، وستلمح في عيونهم دمعة حزينة تحكي الكثير والكثير عن مرارة الظلم، وشقاوة الحياة، وجروح الأقرباء والأحباء. لكنها سرعان ما تتحول كل هذه المشاعر لابتسامة مُشرقة بعد حديثك معهم عن المسيح، الطريق والحق والحياة.
إبدأ بالصلاة لأجل الأمر، حتى يفتح لك الرب بابًا للكلام، ثم انتهز كل فرصة، ولقاء للحديث عن المسيح، المخلِّص والمحرِّر الوحيد؛ لتجد طعمًا آخر لحياتك، ومعنى يفوق كل توقعاتك.