فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ فَلاَ يَجُوعُ، وَمَنْ يُؤْمِنْ بِي فَلاَ يَعْطَشُ أَبَدًا» (يوحنا٦: ٣٥).
للآيات والمعجزات قبول، بل ورغبة، عند الناس. فمنهم من يستمتع بمشاهدتها وينبهر، ومنهم من يستفيد منها كالشبع والشفاء. وكان الرب يسوع كثيرًا ما يُعلن حقيقة روحية بعد كل آية أو معجزة. ففي يوحنا ٦، وبعد معجزة إشباع الخمسة آلاف رجل عدا النساء والأطفال، سألوا عن الرب وطلبوه، لا لشخصه، بل بسبب الطعام الذي أعطاهم. فنصحهم بأن لا يجعلوا الطعام البائد هو هدفهم الرئيسي في الحياة؛ لأنه لا يعطي الحياة بل يغذيها فقط. وقال لهم «أَنْتُمْ تَطْلُبُونَنِي لَيْسَ لأَنَّكُمْ رَأَيْتُمْ آيَاتٍ، بَلْ لأَنَّكُمْ أَكَلْتُمْ مِنَ الْخُبْزِ فَشَبِعْتُمْ» (يوحنا٦: ٢٦). وبدأ الرب بعدها يعلن هذه الحقيقة الروحية:
أنا هو خبز الحياة
وقد أشار الرب لنفسه كالخبز في يوحنا ٦ خمس مرات: الخبز الحقيقي، خبز الله، خبز الحياة، الخبز الذي نزل من السماء، الخبز الحي.
فالخبز: الكل يحتاجه، وهو يناسب الجميع، الغني والفقير، الكبير والصغير.
الخبز الحقيقي: كان المن رمزًا له. أما المسيح فهو الحقيقة.
خبز الله: قدَّمه الله كابنه وحيده الذي يحبه، لسد جوع البشرية.
خبز الحياة: في فاعليته، فهو يهب الحياة ويحفظها.
الخبز الذي نزل من السماء: كان في السماء، وهذا يوضح لنا حقيقة اللاهوت، ونزل منها، التجسد كحقيقة تاريخية تمَّت مرة واحدة. وعندما يقول «النازل من السماء» فهنا يصفه كطعام مستديم ومتجدِّد كل يوم.
الخبز الحي: أي يمتلك حياة في ذاته. فيه كانت الحياة. وأيضا يهبها لكل من يؤمن به.
المسيح والمن
المن - كالخبز - لم يكن يعطي الحياة بل يغذيها. أما المسيح فيعطي الحياة، ويغذيها أيضًا.
المن يسد جوع الجسد. أما المسيح، الخبز الروحي فيسد جوع الروح.
المن من يأكله يجوع، أما المسيح فمن يأكله لا يجوع.
المن أكله لا يغيِّر ما في القلب. أما المسيح فيغيِّر القلب بل والحياة.
المن للأمة اليهودية فقط. أما المسيح فلكل العالم.
ماتَ مَنْ أكلوا المن في البرية لعدم إيمانهم. أما من يأكل - بالايمان - المسيح يحيا إلي الأبد.
من يأكله لا يجوع: أي لا يجوع ولا يعطش لعطايا العالم. والنفس الشبعانة تدوس العسل.
من يأكله لا يموت: لا يقصد عدم الموت جسديًا، بل سينال حياة أبدية في السماء، حتي وإن مات جسديًا سيقوم في الاختطاف.
من يأكل جسدي ويشرب دمي: كثيراً ما يستخدم الرب أشياء مادية لتعليم حقائق روحية. والرب لا يقصد الأكل الحرفي من الجسد والشرب الحرفي من الدم لعدة أسباب:
١ – مستحيلة لأن الرب لا يعلمنا أكل لحوم البشر.
٢- الرب يحرم في الشريعة أكل اللحم بالدم «غَيْرَ أَنَّ لَحْمًا بِحَيَاتِهِ، دَمِهِ، لاَ تَأْكُلُوهُ» (تكوين٩: ٤)، وحرَّم شرب الدم «وَكُلُّ إِنْسَانٍ مِنْ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَمِنَ الْغُرَبَاءِ النَّازِلِينَ فِي وَسَطِكُمْ يَأْكُلُ دَمًا، أَجْعَلُ وَجْهِي ضِدَّ النَّفْسِ الآكِلَةِ الدَّمِ وَأَقْطَعُهَا مِنْ شَعْبِهَا، لأَنَّ نَفْسَ الْجَسَدِ هِيَ فِي الدَّمِ» (لاويين١٧: ١٠،١١). ولا تناقض في كلام الرب؛ فهو لا يقول شيئًا في العهد القديم ويغيره في العهد الجديد.
٣- إن إستعارة كلمة “الأكل” لم تكن غريبة علي السامعين. فقد استُعير بها عن كلام الله في نبوة إرميا «وُجِدَ كَلاَمُكَ فَأَكَلْتُهُ، فَكَانَ كَلاَمُكَ لِي لِلْفَرَحِ وَلِبَهْجَةِ قَلْبِي،» (إرميا١٥: ١٦).
٤- واضح أنه لا علاقة لهذا الكلام بعشاء الرب؛ لأن الكلام هنا كان في كفر ناحوم، والعشاء رسمه الرب بعد هذا الكلام بنحو سنة في أورشليم في الليلة التي أُسلم فيها.
الأكل = الإيمان.
قاعدة رياضية تقول إن العناصر التي تساوي قيمة واحدة، يساوي أحدهما الآخر. ومن مقارنة عددي ٤٧، ٥٤ نفهم الآتي: «اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ»؛ «مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّة». وهنا نخرج بهذه النتيجة: الإيمان يعطي حياة أبدية، والأكل يعطي حياة أبدية. والرب لا يعلم هنا بطريقان لنوال الحياة. بل بتطبيق القاعدة الرياضية علي كلام الرب نفهم أن الأكل يعني الإيمان. وكما أن الطعام يصير بأكله جزءًا من الإنسان، إذ يتغلغل فيه؛ كذلك بالإيمان يتحدّ الإنسان بالمسيح ويصير فيه، والمسيح فيه. فالأكل الحرفي لا يعطي الحياة، بل الإيمان بكسر جسد المسيح عنّا علي الصليب وسفك دمه الكريم. وكثيرًا ما يقرن الكتاب المقدس الحياة «اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ يَسْمَعُ كَلاَمِي وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَلاَ يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ، بَلْ قَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ» (يوحنا٥: ٢٤، اقرأ أيضًا يوحنا٣: ٣٦؛ ٦: ٤٠، ٤٧).
أخي القاريء: لا تكن من الذين يقولون “نأكل ونشرب لأننا غداً نموت”، وأنت لا تدري ما بعد الموت. ولا تكن من الذين يتبعون المسيح طمعًا في عطاياه أو حبًا في آياته ومعجزاته. بل ليتك تقبله بالإيمان، فيتغلغل في كل كيانك. تكون له وهو لك. وهنا تضمن الحياة الأبدية.