الظلام يتحول صباحاً

 قلبي موجوع ولا أحتمل مجرد التفكير فيما حدث أو ما نتج عنه.

 تذكَّر أن الرب صالح وله مقاصد صالحة سيحقِّقها من خلال تجربتك.

 نعم، لا أشك في ذلك، لكن السؤال الذي يحيِّرني: ألا توجد وسيلة أخرى سوى تلك الطريقة الأليمة؟ ولماذا نحن بالذات؟!!

u أفكار الرب تعلو عن أفكارنا. ما لا تفهمه اليوم قد تفهمه مستقبَلاً، على أيّة حال، إن كان الأمر سيجعل الرب يتمجَّد، فهذا شيء يهوِّن عليكم آلامكم الشخصية، أليس كذلك؟

 هذا شيء معلوم لي أيضًا. لكن من يدري حجم خسارتي ومقدار ألمي وحيرتي!! أيحطمنا ويقتل آمالنا ويقلب حياتنا رأسًا على عقب، لكي يتمجد على حساب آلامنا؟! أين العدل في هذا؟! وماذا عن مشاعرنا المتألمة؟! وأي شيء يعوضنا عما حدث؟!

ساد صمت للحظات، لم يقطعه سوى صوت شهقات البكاء وخطوات أقدام تغادر المكان، ليبقى الأخ المتألم مع مشاعره فقط.

الحق الشافي والمحرر بين المعرفة والاختبار

الحوار السابق لم يكن دائرًا بين شخصين، لكن بين مؤمن مع نفسه؛ مؤمن تعرَّض لتجربة قاسية مفاجئة فوجد نفسه في مواجهة مع حقائق يعلمها جيدًا وسمعها كثيرًا في ظروف مشابهة لظرفه. في ذلك الوقت العصيب كان قلبه موجوعًا ومتحيِّرًا، فصارت مشاعره في حالة صراع بل خصام مع أفكار ذهنه لفترة ليست قليلة.

حديث النفس الداخلي هذا، وارد ومتكرر وليس بالأمر الغريب. والاسئلة المطروحة فيه قد لا ترضى أو تقنع حينها بإجابات صوت الحقائق المختزنة في الذهن بالرغم من صحتها ومصداقيتها في ذاتها. في أغلب الأحيان، لا يريد صاحبها أن يقبَلها متجاهلاً مشاعره، كما لو كانت جُرعة مقرَّرة من الدواء المُرّ الذي يلزم تناوله ولو على مضض. كل من جرَّبوا هذا الصراع الداخلي بين المشاعر الحالية التي لم تتصالح بعد مع الحقائق الذهنية، اكتشفوا أن المعرفة في ذاتها لم تشفِ قلوبهم المنكسرة ولم ترفع نفوسهم المنحنية. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل الأمر حقًا كذلك؟ أنقبل الوضع مستسلمين في ضوء هذه الحقائق الصحيحة كمن يتناول: “دواء مر”؟ أم هناك سبيل للشفاء والعزاء الحقيقي بقناعة وتسليم كامل ومُرضِي؟

لكي تتم المصالحة بين القلوب الموجوعة فينا والحقائق الموضوعة أمامنا علينا أن نتذكر ما يلي:

١. رحلة العلاج الفعال تبدأ بعمل الإيمان

الحقيقة الغائبة عن أذهان كثيرين من المتألمين أن الله لا يريد أن يردِّد على مسامعنا هذه الحقائق فحسب، بل يعمل بروحه فينا في ذلك الوقت الصعب ليُعيننا بصورة تفوق توقعاتنا، ولينعش إيماننا. لذلك يتعيَّن على المؤمن المتألم أن يرى الأمور بمنظار الإيمان الذي يجعله لا يركِّز نظره على الوضع القائم، بل يدفعه أن يستودع نفسه (عقله ومشاعره) بالتمام للرب، بكل حيرته وحزنه وخوفه ووجعه. للإيمان دور قوي وفعَّال يجعل الحقائق المعروفة حيَّة ومؤثِّرة وفعَّالة، فيدرك حينها المؤمن المجرَّب أنه يوجد فرق بين مجرد معرفة الحقيقة بالذهن وبين اختبارها وتذوّقها في الواقع العملي. عندما نثق بالتمام (حتى دون أن نفهم أي شيء مما يجري) أن الرب يحبّنا، ولم ولن يتخلى عنا، سوف تكون نفوسنا مهيَّئة لأن تتذوق صلاح الرب وترى حكمته، وتلمس حنانه وسندة مراحمه.

٢. معالجة الذاكرة ضد المرارة والأحزان

قال صوفر النعماتي لصديقه المجرَّب “أيوب”: «لأَنَّكَ تَنْسَى الْمَشَقَّةَ. كَمِيَاهٍ عَبَرَتْ تَذْكُرُهَا وَفَوْقَ الظَّهِيرَةِ يَقُومُ حَظُّكَ. الظَّلاَمُ يَتَحَوَّلُ صَبَاحًا وَتَطْمَئِنُّ لأَنَّهُ يُوجَدُ رَجَاءٌ. تَتَجَسَّسُ حَوْلَكَ وَتَضْطَجِعُ آمِنًا وَتَرْبِضُ وَلَيْسَ مَنْ يُزْعِجُ، وَيَتَضَرَّعُ إِلَى وَجْهِكَ كَثِيرُونَ» (أيوب١١: ١٦-١٩).

• «لأَنَّكَ تَنْسَى الْمَشَقَّةَ. كَمِيَاهٍ عَبَرَتْ تَذْكُرُهَا». ما الذي يذكره وما الذي ينساه؟ يذكر الحدث نفسه، لكن ينسى وجعه وحزنه؛ أي لا يتجدَّد الالم كلما تردَّد ذِكر الأحداث الأليمة على مسامعه. لماذا؟ لأنه سبق وتعزّى من الرب، وهذه التعزية شافية وكافية وصلاحيتها مدى الحياة. صحيح أن عيوننا قد تدمع عندما نذكرها؛ لأننا لن نفقد أحاسيسنا المرهفة بطبيعتها، لكن نذكرها بدون مشقَّة الحيرة والمرارة التي كانت وقت التجربة.

• «فَوْقَ الظَّهِيرَةِ يَقُومُ حَظُّكَ، الظَّلاَمُ يَتَحَوَّلُ صَبَاحًا»، وتأتي في الترجمة التفسيرية: “تُصْبِحُ حَيَاتُكَ أَكْثَرَ إِشْرَاقًا مِنْ نُورِ الظَّهِيرَةِ، وَيَتَحَوَّلُ ظَلاَمُهَا إِلَى صَبَاحٍ”. ما يصوِّره العدو أحيانًا أن الحياة ستكون كئيبة وثقيلة، لكن في الحقيقة الرب يكسو الحياة ببهجة وإشراقة لا نتصورها ونحن في نفق التجربة المظلم.

٣. تعويض شخصي لا يخطر على بال إنسان

عدالة الله لا تقبل أن يكون رابحًا في مشروع على حساب خسارة إنسان طرف فيه. صحيح أن التجارب الأليمة، ونحن في طاعته، لا يمكن النظر لنتائجها المباركة من زاوية واحدة أو أكثر، لأن مقاصد الله بالحقيقة أسمى وأبعد مما نراه أو نتصوره. لكن في كل الأحوال، الله في عدلِه يعوِّض المؤمن المتألم على المستوى الشخصي، وليس فقط بأن يرى الرب يتمجد. المؤمن المجرَّب وقتها لا يفكِّر في أي تعويض وهو في قلب التجربة، إنما ما يحتاجه على الفور في المقام الأول هو انخفاض حرارة التجربة وشفاء لمشاعره المجروحة. الرب في غنى رحمته يقترب إلى مشاعر المؤمن المتألم، ويطيِّب قلبه. وألطاف الرب لديها القدرة أن تجبر القلب المنكسر إن فتح المؤمن قلبه للتعزية، لكن إن أصر على أن يغلق قلبه فسيحرم نفسه من هذا البلسان الإلهي الشافي والفعَّال. بعد أن يتعزى يختبر بركات تعويضية لم تَرِدْ على خاطر المؤمن المجرَّب ولا يمكن حصرها في مجالات أو أشكال محددة بعينها.