لم أصدِّق عيناي حين وقعتا على الخبر المُرِّ على صفحة الفيسبوك! كيف هذا؟! منذ أيام تواعدنا على لقاءٍ قريب، وليس من عادته الإخلال بوعوده!! عهدته مثالاً للالتزام واللطف، للوداعة والجَدّ؛ وكم كانت معرفته سبب بركة شخصية لي. فهل انقضى كل هذا؟!
محاولاً أن أهرب من وقع الخبر الأليم، اتصلت بأحد الأصدقاء بالقوصية، المدينة التي قطنها “يوسف”! ولحزني الشديد أكَّد الخبر؛ لقد رحل صديقي العزيز، “يوسف يونان”. لقد كان على موعد أسمى بكثير من موعدنا، موعدًا لينطلق من هذه الدنيا.
دعنى أقٌصّ عليك القصة قارئي العزيز.
يوسف شاب في زهرة حياته، وحياته كانت زهرة جميلة. تميَّز بجمال أخلاقي نادر؛ فكل من عرفه أحبَّه إذ أحب هو الجميع، لطيف المعاملة، ليس من طبعه الحدة بل الاهتمام بالجميع بابتسامة تزيِّن وجهه دائمًا. يكفي أن تدخل إلى صفحته على الفيسبوك لتعرف، من الدموع التي ملأتها، قيمة هذا الإنسان عند من عرفوه. يتمتع بذكاء مع اتضاع، نجح بتفوق في الثانوية العامة والتحق بكلية الطب. صاحب موهبة فنية متميِّزة، فهو رسام نالت رسوماته إعجاب من رآها إذ تنطق بحياة وجمال. والأهم من كل ذلك، فقد كان ناجحًا روحيًا، تعرَّف بالمسيح مخلِّصًا شخصيًا من زمنٍ، وكان يمتلك أشواقًا متأجِّجة للعشرة مع الرب وطاعة كلمته.
وفي تلك الليلة كانت كل الأمور كالمعتاد حين أوى إلى فراشه. في الصباخ استيقظ باكرًا وتناول كوبًا من الشاي مع والديه، وعاد لبعض النوم. بعدها بسويعات، حاولت والدته ايقاظه، لكنه، على غير المعتاد، لم يفعل!! لقد كان على الموعد الذي لا يعرف أحد موعده، وهو في بداية العشرينات من عمره! ذهب إلى الأفضل، مع المسيح، تاركًا خلفه حياة سنواتها قصيرة لكن تأثيرها كبير وعميق.
اسئلة واجبة
لست هنا بصدد أن أصف مدى حزني، فلن أستطيع، ولا أن أُحصي كَمَّ الدموع التي ذُرفت على شاب في مثل عمره وصفاته، فما أغزرها. لكن الغرض أن نقف لنتعلم من الله الذي يتكلم. فكل ما يمُرّ من حولنا، ولا سيما حادث جلل كهذا، يتكلَّم به الله فإن «اللهَ يَتَكَلَّمُ مَرَّةً، وَبِاثْنَتَيْنِ لاَ يُلاَحِظُ الإِنْسَانُ» (أيوب٣٣: ١٤).
وأمام واقعٍ كهذا، ألا ينبغي أن يسأل كل واحد منّا نفسه:
ماذا لو كانت تلك قصتي؟! هل أدرك متى موعدي؟
هل أنا مستعد؟! إلى أين أنا ذاهب؟َ
ما هو التأثير الذي سأتركه خلفي متى رحلت؟!
ماذا سأقول حين أقف لأقدِّم حسابًا أمام الله عن وكالة الحياة؟!
انتشر “بوست” كتبه يوسف على صفحته وشاركه الكثيرون، قال فيه “لو عندك مواهب وهبات.. لو في كلية في قمة الكليات.. لو في عيلة بتحبك وموفَّرة لك كل الإمكانيات.. وملكش علاقة بالله؛ فإنت محسوب من الأموات...”. ألا تستحق هذه النصيحة الاستماع إذ أنها من شاب مثلك اختبر البُعد عن الله ثم اختبر القُربَ منه، حتى أن أمنيته في هذا البوست كانت أن تعيش روحه مع الله.
كيف نتعامل معه؟
قال في أحد محادثاته مع صديق له (نشرها هذا الصديق بعد رقاد يوسف): “المشكلة إننا بنعتبر ربنا زي حد كبير كدا.. بنروح له بس لما نبقى في مشكلة ونقوله اتدخَّل، انت ساكت ليه؟ مع إن المفروض دا يكون أبوك.. ليك علاقة بيه، وعارف مشاكلك من غير ما تقولها أو تقول له اتدخَّل.. هو عايزك تبقى في مكانك الصح فيه.. وساعتها من غير ما تطلب منه يحل، هو ها يحل لوحديه. علاقتك بيه هي الحل لكل مشاكلك الزمنية والعاطفية والشغل. ما تمسكش واحدة واحدة وتحلّهم انت، بس ارجع له وهايتحلو كلهم مع بعض”. ومرة أخرى، هذا اختبار شاب، ومن حقِّك أن يكون اختبارك أنت أيضًا؛ فلماذا لا تقترب من هذا الآب السماوي فترتاح عنده. دعني أُعلِمَك الطريقة، قال الكتاب «وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ (قبلوا المسيح مخلِّصًا) فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللَّهِ أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ» (يوحنا١: ١٢)، «ثُمَّ بِمَا أَنَّكُمْ أَبْنَاءٌ، أَرْسَلَ اللهُ رُوحَ ابْنِهِ إِلَى قُلُوبِكُمْ صَارِخًا: يَا أَبَا الآبُ» (غلاطية٤: ٦).
لا بُدّ أن يكمِّل
اختم بمقتطفات من صلاة دوَّنها يوسف في مذكراته مؤرَّخة بتاريخ ٤/٦/٢٠١٤: “تعظِّم نفسي الرب منقذي.. يا سيدي أشكرك من كل قلبي لأنك لا تتركني أبدًا. أنت تَعِد وتفي وتُساعد. أنت حقًا مُعيني. أنت تفتح عينيَ على الطريق المستقيم، وحين أريد أن أفعل هذا أنت الذي تحملني فوق أجنحة النسور وتفعله من أجلي... بالإيمان أثق في أنك سوف تقودني ولن تتركني لحظه حتى أصل إلى ''أرض الموعد'' التي تفيض لبنًا وعسلاً. لن أتذمَّر أبدًا في الطريق مهما قابلتني صعوبات. لن أتلفت إلى الوراء. لن أكِلَّ أو أتعب في الجهاد في هذه البرية، إلي أن أصل إلى السماء ''أرض الموعد''. كلما تألمت في الطريق أو قابلتني صعوبات سوف أتذكَّر وعدك بأني سوف أصل... وسوف أحوِّل هذه الغربة إلى سماء على الأرض. تعلّمت أن أثق بك ثقة مطلقة. وهذا الدرس لن أنساه أبدًا. أشكرك يا إلهي من أجل نعمتك. اجعلني دائمًا شاعرًا بها وممتنًا لك بالشكر... أسلِّم لك قلبي والطريق. وسوف أصل وأحيا بها إلى الأبد. أنا مش هاسيبك مهما حصل. أنا اتعلّمت الدرس وآمنت بيك، بس أنت تساعدني”.
صديقي المؤمن.. هل تعلَّمت أنَّ الرب هو الذي وعد وهو الذي بدأ معك الطريق، ولا بد أن يُكمِل؟! هل لك هذه الثقة المطلقة في إلهك؟! هل تعلَّمت ألا تتذمَّر مهما كانت وعورة الطريق؟! هل أنت شاكر وممتن؟!
إن الحياة قصيرة أقصر مما نتخيل، فيجب أن نعيشها بالطريقة الصحيحة. وإن قَصُرت؛ فدع عمقها يكون كبيرًا (في علاقتها بالله) وعرضها متسعًا (في علاقتها بالآخرين).