بين الأمان والتأمين

الاحتياج الطبيعي

كان أمرًا مفيدًا للبشرية، تلك النظرية التي صاغها عالم النفس الأمريكي أبراهام ماسلو Abraham Maslow والتي سُمِّيت بهرم ماسلو، وهي نظرية نفسية تناقش ترتيب الاحتياجات التي يحتاجها الإنسان في شكل هرمي حسب أهميتها.

ومن المدهش، أن ماسلو وضع احتياج الإنسان للأمان في المرتبة الثانية، بعد احتياجاته الفسيولوجية؛ مثل التنفس والطعام والماء والنوم، وحدَّد العالم الشهير أن الإنسان يحتاج للأمان بشكل أساسي، سواء كان هذا الأمان جسدي (سلامته من أي اعتداء)، أو مالي (وجود مورد ثابت له)، أو أسري (وجود عائلة تعضده)، أو سائر أشكال الأمان الأخرى.

ورغم أن كثيرون يشعرون أن في الأمر مبالغة، إلا أن الواقع يؤيد هذه النظرية. لأنه بدون القدر الكافي من الأمان في حياة الإنسان، فلن تكون علاقاته (الزواج، الصداقة، الزمالة) على أساس سليم، ولن يجرؤ على اتخاذ أي قرار، بل ولن يستطيع تسديد باقي احتياجاته حسب هرم ماسلو، والتي تشمل أيضًا الحب والانتماء وتحقيق الذات.

المُسمى الحقيقي

ووسط هذا الاحتياج المُلح للأمان من جانب البشر، فإنه قد يختلط عليهم الأمر بين الأمان والتأمين، وهناك فرق شاسع بينهما؛ فالتأمين يتم عبر عروض من شركات متخصصة، تطلب من المشترك مبلغًا دوريًا من المال، في مقابل أن “تؤمن” على سيارته أو صحته أو ممتلكاته، وهذا أمر لا ضرر منه، وليس لي عليه اعتراض البتة.

بل أن بعض المشاهير بالغوا في التأمين على ما يظنوا أنه أغلى ما لديهم، مثل اللاعب كريستيانو رونالدو الذي أمَّن على قدمه بمبلغ ١٤٤ مليون دولار، ومتذوق الطعام الشهير إيجون رونيه الذي أمَّن على لسانه بمبلغ ٤٠٠ ألف دولار، فيما أمَّن الممثل الكوميدي ريتش هال على روح الفكاهة لديه مقابل مليون دولار!!

والحقيقة أن من يتفحص الأمر بدقة، يكتشف أن أي شركة تأمين – مهما كانت – هي شركة تعويض ليس أكثر، وهذا هو المسمى الحقيقي لها، فشركات التأمين لا تستطيع أن تمنع الحوادث، ولا يمكن أن تقي الإنسان من الكوارث، ولكنها تعوِّضه – بعد إجراءات طويلة - عن جزء من التلفيات أو الخسائر، أو ربما تعوض أهله إن فقد الإنسان حياته. ولكنها أبدًا لا تمنع خطر ولا تغير مصير.

الشعور اليقيني

وهنا أتوقف بإعجاب أمام الأمان الحقيقي الذي تعطيه العلاقة الحقيقية مع الله، والذي أجد أطنان منه في آية واحدة من مزمور٢٧، فيقول داود «إِنْ نَزَلَ عَلَيَّ جَيْشٌ لاَ يَخَافُ قَلْبِي. إِنْ قَامَتْ عَلَيَّ حَرْبٌ فَفِي ذلِكَ أَنَا مُطْمَئِنٌّ» (مزمور٢٧: ٣). فبينما ترتعب الدول من أخبار الجيوش التي تهدِّدها، يتحدى داود أي جيش يهجم عليه وهو وحيد، في أن يستطيع أن يدخل الخوف إلى قلبه، أو يزحزح أمانه الثابت قيد أنملة.

ويورد داود الأساس الفكري لهذا الشعور اليقيني، وهو موجود في بداية المزمور عندما قال: «اَلرَّبُّ نُورِي وَخَلاَصِي، مِمَّنْ أَخَافُ؟ الرَّبُّ حِصْنُ حَيَاتِي، مِمَّنْ أَرْتَعِبُ؟» (ع١). فأمان داود ليس في أشخاص عاجزين، ولا في ظروف متغيرة، ولكن أمانه في الرب، خلاصه من أي ضيق وحصنه في أي أزمة.

التأمين الإلهي

ولمن يبحث عن نظام تأمين يناسبه، عليه أن يذهب إلى مزمور٩١؛ والذي يذخر بأنظمة التأمين المختلفة، التي يمكن للإنسان أن يختار أيًا منها، أو يا ليته يختارها كلها.

فهناك نظام التأمين الدائم، فنقرأ: «لاَ تَخْشَى مِنْ خَوْفِ اللَّيْلِ، وَلاَ مِنْ سَهْمٍ يَطِيرُ فِي النَّهَارِ. وَلاَ مِنْ وَبَإٍ يَسْلُكُ فِي الدُّجَى، وَلاَ مِنْ هَلاَكٍ يُفْسِدُ فِي الظَّهِيرَةِ» (ع٥، ٦). إنه يغطّي كل أوقات الإنسان (الليل، النهار، الظهيرة)، ويشمل كل المكائد والمؤامرات (الخفية والظاهرة) أيًا كان صاحبها أو مصدرها.

ويوجد نظام التأمين المضاد، فهو لا يكتفي فقط بالدفاع، ولكن يتجه أيضًا إلى الهجوم، فيقول: «عَلَى الأَسَدِ وَالصِّلِّ تَطَأُ. الشِّبْلَ وَالثُّعْبَانَ تَدُوسُ» (ع١٣). فالأسد والشبل يشيران للشيطان في قوته، والصِل (الكوبرا) والثعبان يشيران للشيطان في خبثه ومكره. ولكن هذا لا يخيفنا أبدًا، لأنه لدينا قوة ابن الله؛ الأقوى الذي يستطيع أن «يَدْخُلَ بَيْتَ قَوِيٍّ وَيَنْهَبَ أَمْتِعَتَهُ» (متى١٢: ٢٩)، ولدينا أيضًا سلاح الله الذي يُمكِّننا من الثبات ضد مكائد إبليس (أفسس٦: ١١).

ويوجد نظام التأمين الشامل، فنقرأ: «لاَ يُلاَقِيكَ شَرٌّ، وَلاَ تَدْنُو ضَرْبَةٌ مِنْ خَيْمَتِكَ» (ع١٠). فالله لا يؤمِّن فقط المؤمن، ولكن يؤمِّن أيضًا كل ما له (عائلته، عمله، أولاده) وكل ما هو داخل خيمته، وهنا نسمع صرخة الشيطان العاجزة لله: «أَلَيْسَ أَنَّكَ سَيَّجْتَ حَوْلَهُ وَحَوْلَ بَيْتِهِ وَحَوْلَ كُلِّ مَا لَهُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ؟» (أيوب١: ١٠).

ويوجد نظام التأمين الكامل، فيقول: «مَعَهُ أَنَا فِي الضِّيقْ، أُنْقِذُهُ وَأُمَجِّدُهُ. مِنْ طُولِ الأَيَّامِ أُشْبِعُهُ، وَأُرِيهِ خَلاَصِي» (ع١٥، ١٦). وهو تأمين ذو وجهين؛ الوجه الأول يظهر عند الضيق، حينما يتواجد الله مع المؤمن فيه، والوجه الثاني يظهر عند الرحب، لأن مهما زاد وقت الضيق أو قويت شدته، فإن الله متعهِّد أن يظهر خلاصه. فالضيق آتٍ لا محالة، طالما نحن في برية الألم، ولكن الفيصل هو: هل سأواجه الضيق وحدي، أم سيواجهه الله معي؟!

عزيزي القارئ.. أمامي وأمامك فرصة ذهبية للاشتراك في أنظمة التأمين الإلهية (الشامل، الدائم، المضاد، الكامل)، والاشتراك موحد ومجاني، فقط أن نقول لله: «أَنْتَ يَا رَبُّ مَلْجَإِي. جَعَلْتَ الْعَلِيَّ مَسْكَنَكَ» (مزمور٩١: ٩). فحين يسود الله على حياتنا ويكون هو الملجأ ضد تغيرات الزمان، فحينها سنختبر معنى التأمين الحقيقي، ونستمتع بروعة شعور الأمان.

تم ربطها زورًا في الأذهان، فعرقلت بشدة خطوات الإنسان، وتعامل معها على أنها حقيقة دامغة، ولم يعلم أنها في الأصل زوان.