هو «يُوحَنَّا الْمُلَقَّبِ مَرْقُسَ» ابن المرأة الفاضلة “مَرْيَمَ”، التي اجتمع في بيتها المؤمنون الأوائل كثيرًا للصلاة (أعمال١٢: ٥، ١٢). ومن المحتمل أنه كان ابنًا في الإيمان للرسول بطرس الذي يدعوه «مَرْقُسُ ابْنِي» (١بطرس٥: ١٣). ويُمكننا أن نتيقن أن “مَرْقُس” كانت لديه الفُرص الممتازة والمُباركة للنمو الروحي وخدمة الرب، أيام الكنيسة الأولى. ففضلاً عما سبق ذكره، فقد نال امتياز أن يكون رفيقًا لبرنابا وبولس؛ هذين الخادمين الجليلين للرب يسوع. ففي نحو سنة ٤٦م، وعند رجوع برنابا وبولس من أورشليم إلى أنطاكية أَخَذَاه مَعَهُمَا (أعمال١٢: ٢٥).
ومن أورشليم إلى أنطاكية – حوالي ٣٠٠ ميلاً – كانت لمرقس الفرص المتسعة أن يسمع، من برنابا وبولس، أخبار الإنجيل السارة، ودعوة الأمم للخلاص بيسوع المسيح. وعندما وصلوا إلى أنطاكية، رأى مرقس بنفسه براهين عمل الروح القدس في هذه الكنيسة. والتأثيرات الإلهية التي بدأت يوم الخمسين في أورشليم، يراها بوضوح أيضًا في أنطاكية، إذ تُستعلَّن ربوبية المسيح على النفوس، وكذلك حرية الروح القدس أن يتحرك، ويعمل في وسط المجتمعين معًا، من المؤمنين في الكنيسة.
وبينما كان الإخوة في أنطاكية يخدمون الرب ويصومون «قَالَ الرُّوحُ الْقُدُسُ: أَفْرِزُوا لِي بَرْنَابَا وَشَاوُلَ لِلْعَمَلِ الَّذِي دَعَوْتُهُمَا إِلَيْهِ... ثُمَّ أَطْلَقُوهُمَا». ومن أنطاكية، استقل الرسولان السفينة، وأبحرا «وَكَانَ مَعَهُمَا يُوحَنَّا خَادِمًا» (أع١٣: ٢، ٣، ٥). وتعني كلمة “خادم” المُستخدمة عن مرقس، أنه كان خاضعًا لهما، وعاملاً بحسب توجيههما كخادم. ومع ذلك نراه فيما بعد أنه لم يخضع لهما، ولم يستمر معهما.
لقد رأى “يُوحَنَّا مَرْقُس” عمل الرب، ومقاومة الشيطان ومتاعب الخدمة أيضًا. فأُصيبت روحه بتأثيرات مختلفة مما رآه من مشقات الخدمة. ولا بد أن هناك شيئًا ما قد أعاقه عن الاستمرار، فقد «فَارَقَهُمْ وَرَجَعَ إِلَى أُورُشَلِيمَ» (أعمال١٣: ٦-١٣). وبدلاً من تكميل عمله المُرسلي معهم عاد إلى بيته في أورشليم. ربما كان قد استسلم للمخاوف والاضطرابات من جراء المقاومات التي رآها هناك، أو للحظات شك سمح لنفسه أن يدخل فيها، وكانت من غواية وأحاييل إبليس. أو كان ضعف الإيمان الذي أرجعه للوراء بدلاً من أن يستمر في الخدمة.
ولكن لم يكن هذا الفشل هو نهاية مرقس. فمن المؤكد أنه رُدَّت نفسه. وهناك ثلاث إشارات يذكرها الرسول بولس عنه في كولوسي٤: ١٠؛ فليمون٢٤؛ ٢تيموثاوس٤: ١١، تؤكِّد رد نفسه إلى طريق الخدمة والأمانة، وإلى ثقة الرسول بولس به. فالذي فشل في الخدمة في البداية أصبح نافعًا أخيرًا، وليس ذلك فقط بل اختاره الروح القدس لكي يكتب “إنجيل مرقس” وموضوعه “الرب يسوع: الخادم الذي لا يفشل قط”! وتحوَّل “يوحنا مرقس” من الفشل القاسي إلى النجاح العظيم. لقد بدأ طريق الخدمة بخطوات متعثرة، ولكن تغيَّرت حياته وأصبحت قوية، وشهادته لامعة.
وينفرد مرقس، في إنجيله، عند الحديث عن القبض على الرب يسوع، بذكر أنه «تَبِعَهُ شَابٌّ لاَبِسًا إِزَارًا عَلَى عُرْيِهِ، فَأَمْسَكَهُ الشُّبَّانُ، فَتَرَكَ الإِزَارَ وَهَرَبَ مِنْهُمْ عُرْيَانًا» (مرقس١٤: ٥١، ٥٢). لقد كان هذا الشاب أشجع من التلاميذ، إذ تبع المسيح في الوقت الذي هرب فيه الجميع. ويبدو أنه كان نائمًا أو مُقبلاً على النوم عندما سمع عن واقعة القبض على الرب يسوع، فلم يتمهل ليلبس ثيابه، بل أخذ الإزار ولفه على جسده العاري، وجرى مُسرعًا أمام الموكب، ليهرب بعد ذلك بخزي عظيم. والأرجح أن هذا الشاب هو نفسه مرقس كاتب الإنجيل، وأنه أورد القصة كما حدثت معه، وكما اختبرها بنفسه. وهي تُعطينا صورة طبيعية حقيقية لحياة مرقس كشاب بين الاندفاع والتراجع، بين الإقدام والإحجام على نحو مباغت عنيف. وهي قصة تُمثل خصائص الشباب في الأغلب قبل أن تعركهم حوادث الحياة، وتصلّب وتثبت إرادتهم الأيام. وفي الحقيقة إننا لا نحتاج إلى الوقت الطويل مع أي شاب - إذا قورن بالشيخ - لنحركه في الاتجاه العاطفي الذي ينقله من النقيض إلى النقيض في سرعة بالغة.
لقد اندفع مرقس إلى طريق الخدمة قبل التوقيت الإلهي، وقبل أن تظهر ملامح الدعوة الإلهية، ولذلك لم يحتمل معاناة السفر، والظروف الصعبة، والشخصيات التي كان يجب أن يواجهها في طريق الخدمة، وهكذا نراه يتراجع سريعًا. ولكن بعيدًا عن الأنظار، وحيث لا نعلم، وفي زمن نجهله، وبطريقة لا ندركها، كانت يد الفخاري الأعظم تعمل لتُشكلن منه إناءً نافعًا للسَيِّد.
ولنا في هذه الحادثة التي انفرد بذكرها مرقس درس آخر؛ فبعد أن تبرهن ضعف التلاميذ عندما أتى اليهود ليقبضوا على المسيح، إذ «تَرَكَهُ الْجَمِيعُ وَهَرَبُوا» (مر١٤: ٥٠)، نقرأ عن هذا الشاب الذي غامر وتبع الرب يسوع، ليهرب بعد ذلك بخزي عظيم.
لقد كان عريانًا مع أنه كان مئتزرًا بثوب. فيبدو أنه لم يسبر غور خرابه الداخلي، وضعفه وعجزه. ويبدو أنه كان مخدوعًا بالثقة في ذاته، وبالثقة في إزاره (ثوبه الكتاني أو الذي من البز – بحسب ترجمة داربي). لقد كان يتصوَّر أن هذا الثوب الكتاني يُكسبه بعض الحماية. أَلم تكن ثياب الكهنة من الكتان أو البز الأبيض النقي؟ ولكن جاء وقت اضطر فيه هذا الشاب أن يترك ثوبه خلفه، ولم يتبقَ له إلا عُريه المُشين وخزيه الأعظم. لقد كانت محاولته لإخفاء عُريه واتباع الرب، محاولة فاشلة.
وفي جنة عدن - جرَّد الشيطانُ الإنسانَ من رداء البراءة، وتركه عريانًا لا يصلح لحضرة الله. وعندما اكتشف آدم وحواء حالتهما هذه، حاولا أن يعالجاها «فَخَاطَا أَوْرَاقَ تِينٍ وَصَنَعَا لأَنْفُسِهِمَا مَآزِرَ» (تكوين٣: ٧). ولكنها لم تكن كافية لتجعلهما ملائمين لحضرة الله، بل عندما سمعا صوت الرب اختبأا منه، وهما لا زالا يشعران بعريهما. وكذلك دائمًا مع ثياب الإنسان التي يصنعها لنفسه، ولو أن الشيطان يُحرضه على صُنعها، ويوهمه بأنه متأنق في هندامه، ولكن «تَكْتَسُونَ وَلاَ تَدْفَأُونَ» (حجي١: ٦). وكذلك نقرأ بخصوص ذلك «نَسَجُوا خُيُوطَ الْعَنْكَبُوتِ... خُيُوطُهُمْ لاَ تَصِيرُ ثَوْبًا، وَلاَ يَكْتَسُونَ بِأَعْمَالِهِمْ»، وأيضًا «قَدْ صِرْنَا كُلُّنَا كَنَجِسٍ، وَكَثَوْبِ عِدَّةٍ كُلُّ أَعْمَالِ بِرِّنَا» (إشعياء٥٩: ٥، ٦؛ ٦٤: ٦).
إن “الرداء” أو “الإزار” يُمثل من الناحية الروحية بِرَّ الإنسان. أَفليس هو الذي يستر الإنسان عن الإنسان، ويظن الإنسان أنه يصلح أيضًا ليستره أمام الله؟! ولكن في الحقيقة لا يوجد سوى شخص المسيح نفسه يصلح لستر الإنسان الخاطئ في حضرة الله القدوس «وَمِنْهُ أَنْتُمْ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ، الَّذِي صَارَ لَنَا حِكْمَةً مِنَ اللهِ وَبِرًّا وَقَدَاسَةً وَفِدَاءً» (١كورنثوس١: ٣٠).