غالبا ما يغييب الفعل “نعمل” وسط زحام كثرة الكلام، وحظيان الخدمات الشفوية بنصيب وافر في مجالات الخدمة، مما اختزلها في مخيلة الغالبية في أقوال تُقال أكثر من عمل ينجز. أما عن تعبير “عمل الخير”، فهو يرتسم في أذهان الكثيرين أنه مجرد “خدمة اجتماعية” تقتصر على تسديد بعض الاحتياجات المادية أو توفير بعض العطايا العينية سواء في صورة غذاء أو كساء أو دواء.. الخ. ومعروف عند الناس أن عمل الخير يعني التوجه إلى دور الأيتام والمستشفيات والأحياء الفقيرة لتقديم يد المساعدة، وهي إحسانات تُقدَّم لمن هم أولى بها، من خلالها تسَعد نفوس بائسة وتسدَّد احتياجات مُلِحَة. يليق بالمؤمن أن يكون له قلب رحيم مترفق بكل بائس، مظهرًا بذلك أنه من أبناء الآب الرحيم.
يقول الكتاب: «افْعَلِ الْخَيْرَ» (مزمور٣٧: ٣). فهل ما سبق هو كل ما قصده الوحي بعمل الخير؟ السؤال الذي أريد أن أطرحه لأذكِّركم ببُعدٍ آخر لخير يحتاجه البشر بصورة أكثر ضرورة.
١- ما هو مفهوم «الخير»؟
هل يقتصر على تسديد الاحتياجات الجسدية والعاطفية فقط؟ أم أن هناك خير يمكن أن يلمس أشد صور الاحتياج وأعمقها وهو ما تحتاجه روح الإنسان؟ أليست معظم الجمعيات والمؤسسات الخيرية على مستوى العالم تأسست بواسطة مُرسَلين كانت غايتهم القصوى ألا تمتلئ فقط بطون الجائعين بالخبز بل تمتلئ قلوبهم بالمخلِّص «خبز الحياة»، ولا أن تكتسي أجسادهم فحسب بل نفوسهم بثياب الخلاص، ولا يعالجون من الأمراض الجسدية بل ليبرئوا من داء الخطية الذي يدفع ضحاياه إلى الموت الأبدي والطرح في الجحيم؟ إن أعظم خير يمكن أن نقدِّمه للناس هو بشارة الخلاص، فالمبشرون بالإنجيل هم مبشرون بخيرات باقية وأبدية، وخلاص المسيح هو الخير العظيم (أيوب٢٢: ٢١).
٢- لماذا نعمل الخير؟
أ) تمثُلاً بسيدنا الكريم الذي جاء إلى العالم المعذَّب ليظهر محبة الآب الرحيم للمساكين. فلم يشهد التاريخ البشري إنسانًا ولا هيئة إغاثة في التاريخ عمل الخير مع الناس نظير ربنا الحبيب الذي وصف نفسه بـ”ابن الإنسان” إذ هو صاحب الإنسانية الكاملة والمشاعر الرقيقة أمام حاجة الإنسان. عواطف البشر تأثّرت بالخطية الساكنة فيهم فجعلت مشاعرهم جامدة، أما سيدنا البار فكانت عواطفه رقيقة وحساسة جدًا لأنه بلا خطيةـ لذا «جَالَ يَصْنَعُ خَيْرًا وَيَشْفِي» (أعمال١٠: ٣٨).
ب) لأننا سنحصد نتائجه في الوقت المعين: قد يكون حصاد هذا الزرع الجيد هنا في الزمان الحاضر لكن بالتأكيد سيكون في المستقبل أمام كرسي المسيح. هذا الفكر يجعل المؤمن لا يخشى الفشل ولا يخور من الكلل. وكلمة “وقته” تعني “في الموعد المعيَّن لها”. هنا الرب يشجعنا بأن عمل الخير لن يكون عبثًا ولن يضيع هباءً.
٣- من الذي يعمل الخير؟
أ) من يدرك الاحتياج وفي طاقة يده أن يفعله: توجد ثلاثة عوامل لعمل الخير. ١- إحتياج واضح، ٢- من يرغب في سده، ٣- المقدرة على تسديد هذا الإحتياج. يقول الكتاب «لاَ تَمْنَعِ الْخَيْرَ عَنْ أَهْلِهِ، حِينَ يَكُونُ فِي طَاقَةِ يَدِكَ أَنْ تَفْعَلَهُ» (أمثال٣: ٢٧). فالذي يعرف من هم أهلاً للخير ليفعله طالما في طاقة يده أن يعمله.
ب) من يصنع الخير هو من الله (٣يوحنا١١). الطبيعة الجديدة التي في المؤمن هي طبيعة أبينا الصالح الذي لا يكُفّ عن عمل الخير، إنها تنتج بل تبتكر الخير «الرَّحْمَةُ وَالْحَقُّ فَيَهْدِيَانِ مُخْتَرِعِي الْخَيْرِ» (أمثال١٤: ٢٢). وتعبير «مخترعي الخير» يعني أنهم يبذلون الجهد الكثير سواء بمشاعرهم أو بأيديهم، والمحرك الأساسي الذي يعمل فيهم هو الرحمة الممتزجة بالحق. الرحمة تحرِّك المشاعر والعدل يقتضي أننا كما أخذنا من الرب كل عطاياه وهباته الكثيرة مجانًا وجب علينا أن نعطي مجانًا.
٤- لمن نعمل الخير؟
«فَإِذا حَسْبَمَا لَنَا فُرْصَةٌ فَلْنَعْمَلِ الْخَيْرَ لِلْجَمِيعِ، وَلاَ سِيَّمَا لأَهْلِ الإِيمَانِ» (غلاطية٦: ١٠). تقديم الخير لأهل الإيمان أمر واجب، والرب يحسبها ذبيحة يسَرُّ بها (عبرانين١٣: ١٦). ومما لا شك فيه أن المحبة الأخوية الشديدة تدفع المؤمنين أن يراعوا الفقراء والمحتاجين من إخوتهم ويطلبون خيرهم. قيل عن نحميا إنه رجل جاء يطلب خيرًا لشعبه.
لكن هل يا ترى نفعل خيرًا مع جميع الناس كما تقول الوصية: «اتَّبِعُوا الْخَيْرَ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ وَلِلْجَمِيعِ» (١تسالونيكي٥: ١٥) سواء كانوا زملاء، جيران أو رؤساء؟ وهل نُحسِن إلى الذين يعاملوننا حسنًا فقط؟ ماذا عن الذين يبغضوننا ويناصبوننا العداء؟! هل نمنع عنهم الخير إن كان في طاقتنا؟ قال الرب: «َإِذَا أَحْسَنْتُمْ إِلَى الَّذِينَ يُحْسِنُونَ إِلَيْكُمْ، فَأَيُّ فَضْلٍ لَكُمْ؟ فَإِنَّ الْخُطَاةَ أَيْضًا يَفْعَلُونَ هكَذَا». أما المسيحي فله منهج أسمى بكثير من منهج الناس الطبيعيين الذين يتصرفون بطبيعتهم البشرية الفطرية. الإحسان هنا بمعنى العمل الحسن أو الطيب أو الجيد، وليس فقط الصدقات أو العطايا المادية. المؤمن القريب من سيده يكون له ذات مشاعر سيده الرقيقة الرحيمة إذ يفيض قلبه بالحب لجميع الناس سواء كانوا صالحين أم أشرار. الأمر لا يقف عند حد العطاء المادي أو العيني بل يمكن أن نفعل خيرًا عندما نعكس محبة الله لهم في المناسبات المختلفة.
٥- متى نعمل الخير؟
أ) حسبما تكون لنا فرصة للعمل: جيد للمؤمن أن يشارك في كل ما ينتج خيرًا للناس مثل فصول محو الأمية أو الخدمة الطبية أو ممارسة أعمال الرحمة بكل صورها. إن كلمة تشجيع وابتسامة صادقة يمكن أن تُحيي الرجاء في نفس بائسة. ربما مكالمة تليفونية تنقذ - جارًا أو زميلاً يائسًا - من الانتحار. عاش ربنا الكريم في ذات العالم الذي نعيش فيه وكان يفيض حنانًا ولطفًا وإشفاقًا على منكسري القلوب. كم من المرات تُتاح لنا الفرصة أن نصنع خيرًا مع نفوس ينتظرها هلاك أبدي دون أن ننذرهم حين وجب أن نختطفهم من النار؟ إن اغتنمنا كل فرصة لعمل الخير سنجد أن اليوم بطوله وعرضه يمتلئ بالفرص. إن سلكنا في ذات الطريق، نمجد أبانا الطيب والحنان، ونعطي فرصة للناس أن تصل إليهم نعمة الله الرحيم من خلالنا فيميزوا بين المسيحية المؤسَّسة على محبة ونعمة الله وبين ديانات العالم التي يعرفها الإنسان.
ب) نعمل الخير بالرغم من المقاومة والآلام التي تواجه المتمثلين بالخير (١بطرس٢: ٢٠): هنا نرى سمو الحياة المسيحية إذ يقترب الشبه بين المسيحي والمسيح الذي هو أعظم مثال، إذ لم يكُفّ عن الإحسان حتى في مشاهد آلامه ورفضه. شر الإنسان لم يعطِّل خيره وعنف الإنسان لم يمنع لطفه.
٦- كيف نعمل الخير؟
أ) نتكل على الرب (مزمور٣٧: ٣): إن فعل الخير يأتي بالاستناد على نعمة الله التي تضمن لنا أن نخرج من دوائر أنفسنا وأنانيتنا ونفكِّر في الآخرين ونكون رحماء. والنعمة تهبنا أن لا ندخر وسعًا كي نجود بسخاء ونصنع المعروف مع الجميع.
ب) نتعلم فعل الخير: وبَخ الرب شعبه على لسان إشعياء النبي بقوله: «تَعَلَّمُوا فَعْلَ الْخَيْرِ. اطْلُبُوا الْحَقَّ. انْصِفُوا الْمَظْلُومَ. اقْضُوا لِلْيَتِيمِ. حَامُوا عَنِ الأَرْمَلَةِ» (إشعياء١: ١٧). عمل الخير أمر متنامي ويحتاج إلى تدريب يومي. بقدر ما نسلك بالقداسة ومخافة الرب ونقترب من الرب أكثر سنعرف ما في قلبه تجاه من نتعامل معهم فهو الوحيد الذي بالحق يحمل الخير للجميع.