جدعون كان شابًا عاش في أيام صعبة، وكل ما حوله كان مفشلاً، لكنه تميَّز بعدة صفات جعلته إناءً نافعًا لخدمة السيد، وقد استخدمه الرب لخلاص شعبه من المديانيين. تميَّزت أيام حكم القضاة بالشر والفساد والارتداد عن الله؛ ففي تلك الأيام لم يكن ملك في إسرائيل، وكل واحد عمل ما حسن في عينيه. وهنا للمرة الرابعة نقرأ القول: «وَعَمِلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ»، ثم يضيف «فَدَفَعَهُمُ الرَّبُّ لِيَدِ مِدْيَانَ سَبْعَ سِنِينَ» (قضاة٦: ١).
و“مديان” يمثِّل الروح العالمية المستقلة عن الله، ومعنى اسمه “نزاع وخصام”، كذلك “عماليق” يمثِّل الجسد بشهواته، و“بنو المشرق” يمثلون الشيطان وأجناد الشر الروحية. وهؤلاء الأعداء الثلاثة تكتلوا ضد شعب الله. وهذا ما يحدث معنا.
«بِسَبَبِ الْمِدْيَانِيِّينَ عَمِلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ لأَنْفُسِهِمِ الْكُهُوفَ الَّتِي فِي الْجِبَالِ وَالْمَغَايِرَ وَالْحُصُونَ» (ع٢). وعندما يؤدِّب الرب شعبه لا ينبغي أن يلجأ إلى حصون الأرض أو يهرب من التأديب. يقول الكتاب: «يَا ابْنِي، لاَ تَحْتَقِرْ تَأْدِيبَ الرَّبِّ» (أمثال٣: ١١). بل علينا أن نخضع ونتضع تحت يد الله القوية. «فَذَلَّ إِسْرَائِيلُ جِدًا مِنْ قِبَلِ الْمِدْيَانِيِّينَ» (ع٦)، الذين كانوا لا يتركون لهم قوت الحياة. «وَصَرَخَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى الرَّبِّ. وَكَانَ لَمَّا صَرَخَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى الرَّبِّ... أَنَّ الرَّبَّ أَرْسَلَ رَجُلاً نَبِيًّا» (ع٦٨). وعمل النبي هو علاج الحالة الأدبية وإنهاض الضمائر وتوضيح السبب: لماذا سمح الرب لهم بالضيق. الضيق جعلهم يصرخون، لكن ما وراء الضيق والذل هو ما حضر لأجله النبي. ليس المطلوب هو أنَّ الرب يرفع التأديب عنا، بل أن نتعلم الدرس. وكان الدرس الذي شرحه النبي أنهم لم يسمعوا لصوت الرب رغم كل معاملاته وتحذيراته (ع١٠). يقول الكتاب: «لَيْتَكَ أَصْغَيْتَ لِوَصَايَايَ، فَكَانَ كَنَهْرٍ سَلاَمُكَ» (إشعياء٤٨: ١٨). وعندما نتضع أمام الرب ونتجاوب مع الرسالة النبوية بالتوبة، سنحصل، ليس فقط على الخلاص، بل على البركة المقترنة بالطاعة.
«وَأَتَى مَلاَكُ الرَّبِّ (الرب نفسه) وَجَلَسَ تَحْتَ الْبُطْمَةِ الَّتِي فِي عَفْرَةَ الَّتِي لِيُوآشَ الأَبِيعَزَرِيِّ. وَابْنُهُ جِدْعُونُ كَانَ يَخْبِطُ حِنْطَةً فِي الْمِعْصَرَةِ لِكَيْ يُهَرِّبَهَا مِنَ الْمِدْيَانِيِّينَ» (ع١١). إن عيني الرب تجولان في كل الأرض ليتشدد مع الذين قلوبهم كاملة نحوه (٢أخبار١٦: ٩). “البطمة” تعني القوة، و“عفرة” تعني تراب وترمز إلى الضعف، “يوآش” معناه يائس، و“أبيعزر” معناه “أبي عوني”. البطمة إن قطعت لها ساق تعود فتنمو، وهي رمز لشعب الله (إش٦). كأن جدعون وهو تحت البطمة يتأمل في حالة الشعب وما وصلت إليه، ويقول للرب: «أَلاَ تَعُودُ أَنْتَ فَتُحْيِينَا، فَيَفْرَحُ بِكَ شَعْبُكَ؟» (مزمور٨٥: ٦). البطمة في عفرة تعني القوة في الضعف، وحتى لو وصلت الحالة إلى اليأس (يوآش) فهناك المعونة الإلهية التي ستأتينا (أبيعزر). “جدعون” معناه قاطع أو حازم، مع نفسه ومع الآخرين. وهذه خصائص الرجل الذي يستخدمه الرب. كان في التراب متضعًا، لكنه كان يخبط حنطة في المعصرة لكي يهربها لإخوته من المديانيين. والحنطة ترمز إلى شخص المسيح المُقام والممجَّد. فهو شخص يدرك الحالة، متضع، يتغذى بالمسيح، ويفكر في إخوته الجائعين. إلى هذا المكان المتضع، وصل ملاك الرب ليتقابل مع جدعون.
قال له: «الرَّبُّ مَعَكَ يَا جَبَّارَ الْبَأْسِ» (ع١٢). وماذا كان وقع هذا الكلام على جدعون ذي القلب المنكسر؟ إنها كلمات تتضمن تقديرًا وتعزية وتشجيعًا له.
«فَقَالَ لَهُ جِدْعُونُ: أَسْأَلُكَ يَا سَيِّدِي، إِذَا كَانَ الرَّبُّ مَعَنَا فَلِمَاذَا أَصَابَتْنَا كُلُّ هذِهِ؟ وَأَيْنَ كُلُّ عَجَائِبِهِ الَّتِي أَخْبَرَنَا بِهَا آبَاؤُنَا قَائِلِينَ: أَلَمْ يُصْعِدْنَا الرَّبُّ مِنْ مِصْرَ؟ وَالآنَ قَدْ رَفَضَنَا الرَّبُّ وَجَعَلَنَا فِي كَفِّ مِدْيَانَ» (ع١٣). إجابة جدعون كانت تلقائية. إنه يحمل في ذهنه كل شعب الرب وليس نفسه فقط، ولا يفصل نفسه عن مذلتهم. هذا هو الإناء الذي سيستخدمه الرب. كان جدعون يتأمل فيما وصلوا إليه من فقر، ويسترجع معاملات الله القديمة وعجائبه ويتحير، وكان في ذلك في شركة مع الله من جهة شعبه. إن الإيمان يتعلق بالله وصفاته ومعاملاته وعجائبه، ويثق في محبة الرب لشعبه، وأنه لن يتخلى عنهم. كانت عبارة ملاك الرب عكس الواقع الذي يراه.
«فَلِمَاذَا أَصَابَتْنَا كُلُّ هذِهِ؟» سؤال يجب أن نسأله لأنفسنا إذا تعرضنا لأي ضيقة أو تجربة. والجواب في حالة جدعون أن الشعب أهان الرب بشروره واستهان بمقدساته. إن حالة شعب الرب اليوم كما كانت يومها. يوجد أفراد قلائل هنا وهناك يخبطون حنطة ليقدِّموها لشعب الله سرًّا، لكن الجوع الروحي يسود بسبب الشرور وعدم الطاعة. إننا نشابه العالم في مبادئه التي تحكمه. قال جدعون: «قَدْ رَفَضَنَا الرَّبُّ وَجَعَلَنَا فِي كَفِّ مِدْيَانَ». دعونا بإخلاص نسأل: هل يد الرب معنا أم لا؟
«فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ الرَّبُّ وَقَالَ: اذْهَبْ بِقُوَّتِكَ هذِهِ وَخَلِّصْ إِسْرَائِيلَ مِنْ كَفِّ مِدْيَانَ. أَمَا أَرْسَلْتُكَ؟» (ع١٤). كان الرب مسرورًا به «وَإِلَى هذَا أَنْظُرُ: إِلَى الْمِسْكِينِ وَالْمُنْسَحِقِ الرُّوحِ وَالْمُرْتَعِدِ مِنْ كَلاَمِي» (إشعياء٦٦: ٢). القوة التي رآها الرب كانت متمثلة في إيمانه ورؤيته الصحيحة للأمور وتعلُّقه بالرب وصفاته وعجائبه، ولهذا اختاره وذهب إليه.
«أَسْأَلُكَ يَا سَيِّدِي، بِمَاذَا أُخَلِّصُ إِسْرَائِيلَ؟ هَا عَشِيرَتِي هِيَ الذُّلَّى فِي مَنَسَّى، وَأَنَا الأَصْغَرُ فِي بَيْتِ أَبِي» (ع١٥). هذا صحيح، ولكنه نصف الحقيقة. فليس المهم أنا، بل هو. كان الرب يريد أن يشجِّع جدعون الصغير النفس. وهذا عكس ما حدث مع موسى الذي كان يشعر في البداية وهو في مصر أنه مقتدر، واحتاج إلى تدريب طويل ليتعلم محدوديته وأنه لا شيء.
«فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: إِنِّي أَكُونُ مَعَكَ، وَسَتَضْرِبُ الْمِدْيَانِيِّينَ كَرَجُل وَاحِدٍ». (ع١٦). ذراعي، حكمتي، قوتي، نعمتي، محبتي ستسند ضعفك للنهاية. وكل خادم يحتاج إلى هذين الوعدين في طريق خدمته: «أَمَا أَرْسَلْتُكَ»، ثم «إِنِّي أَكُونُ مَعَكَ».
وللحديث بقية.