“ميجيل ثربانتس” كاتب أسباني عاش في القرن السادس عشرـ عمل بالجيش، وأُسِرَ. عمل بعد ذلك في عدة أعمال جالت به البلاد طولاً وعرضًا. أخيرًا امتهن الكتابة للشعر والقصة. لم يكن مشهورًا حتى أصدر رائعته “دون كيخوتي دي لامانتشا”، والمعروفة أيضًا في العربية بأسماء “دون كيشوت” و“دون كيخوته”. وهي قصة كبيرة في جزئين، اعتبرتها الجهات الأدبية واحدة من أروع الأعمال الروائية على مَرِّ التاريخ.
والرواية تحكي مغامرات “ألونسو كيخانو”، وهو رجل نحيف طويل، في الأربعينات من عمره، متوسط الحال، يعيش في إحدى قرى أسبانيا في القرن السادس عشر. لم يكن يشغله شيء في الحياة إلا قراءة قصص الفروسية والبطولات القديمة. ومن الفراغ الذي يعيش فيه وتشبُّعه بقصص البطولة، أصبح توق قلبه أن يعيش أحد هذه القصص بأي شكل، لكي ينشر العدل وينصر الضعفاء، ويدافع عن المساكين!
قرَّر أن يجهِّز عدة الفروسية؛ فاستخرج من مخزن المنزل معدات قديمة متآكلة من مخلّفات آبائه، جعل منها سلاحًا له. اجتهد أن يصنع لنفسه ملابسًا تليق بالفرسان، من وجهة نظره، اختارها بعناية من ملابسة الرثة. لفَّق لنفسه درعًا، ولبس ما أشبه الخوذة وحمل رمحًا وسيفًا، وركب حصانه الهزيل “روسينانتي”. وهكذا صار كأحد الفرسان السابقين الذين انقرضوا منذ أجيال، يتكلم “بكلام كبير” مثلهم، يتبختر في سيره. ولتكتمل الصورة، إذ قرأ عن الفرسان أن لكل منهم تابعًا أمينًا، قرَّر أن يختار تابعًا له، فاختار جاره المزارع الساذج القصير البدين “سانشو” ليكون حامل سلاحه، واعدًا إياه بأن ينصِّبه حاكمًا على إحدى الجزر بمجرد أن يتبوأ هو، أي دون كيخوتي، مكانته المنشودة.
وهكذا انطلق حاملاً لقبًا جديدًا هو “دون كيخوتي دي لامانتشا”، وأسموه فيما بعد “فارس الظل الحزين”!
وفي الجزء الأول من الكتاب نرى دون كيخوتي يجول بحثًا عن الأعداء ليقاتلهم ويخلِّص العالم من شرهم. وفي يوم وجد نفسه وجهًا لوجه مع أحدهم، بل ما اعتقد أنه مصدر الشر في الدنيا كلها، شياطين ذات أذرع هائلة تصدر أصوات حفيف مزعجة تنمّ عن نواياها الشريرة. فشعر أن الفرصة قد واتته ليعلن عن فروسيته وبطولته. فبدأ في مهاجمتها، بشهامة الفارس، غير مبالٍ بصراخ سانشو وتحذيره له. ما كان هذا العدو إلا طواحين هواء تُستخدم في توليد بعض الطاقة ورفع المياه من الأعماق. استل رمحه ورشَقَه تجاهها فرفعته أذرعها في الفضاء، ودارت به وطرحته بعنف إلى الأرض متوجِّعًا في كل جسده، مهلهل الثياب، خائب الأمل.
وفي مرة أخرى اعتقد أنه يواجه زحف جيشٍ جرار يملأ الجو غبارًا وضجيجًا، فاندفع بجواده ليخوض المعركة التي أتاحها له القدر مرة أخرى حتى يثبت شجاعته ويخلّد اسمه. ولكنه في الحقيقة كان قطيعًا من الأغنام. وأسفرت المعركة عن قتل عدد من الأغنام، وعن سقوط دون كيخوتي نفسه تحت وابل من أحجار الرعاه الحانقين عليه، فقد على أثرها بعض أسنانه.
لم يتعلّم الدرس، ولم يكفّ، بل أكمل مسيرته من عدو وهمي إلى آخر، ومن توجّع إلى التالي. وفي نهاية المطاف، قام بعض جيرانه بمحاصرته وإمساكه، ثم إعادته إلى قريته داخل قفص. ورغم كل هذا، ظل على ظنه أنه سينال تكريمًا ونياشين من ملك البلاد جزاء عمله.
تُختم القصة وألونسو (أو دون كيخوتي) على فراش الموت ونسمعه يندم على “سحابة الجهل الذي نشرته كتب الفروسية” ويعلن “لست آسفًا إلا على شيء واحد، أن زوال الغشاوة عني قد أتى في وقت متأخر بحيث لن أستطيع تعويض الزمن الضائع”.
بعض أفكار
لو عاد ثربانتس للحياة سيجد مادة أكثر خصبًا لروايته في واقعنا اليوم. فكم من دون كيخوتي وكم من طواحين هواء وقطعان دمَّروها.
ولو كان لثربانتس حسابًا على الفيسبوك أو تويتر، لَجمع آلاف الفصول لروايته دون جهد أو خيال.
كم من حروب وهمية انتهت بأوجاع المقاتل وخسائر للآخرين. كان أولى أن يُصرف هذا الجهد للفائدة، ووقتها كانت ستعمّ على كثيرين. ما يستحق الجهد هو ما يبني لا ما يهدم، ما يقود الناس لله لا للعراك.
كم من فوارس ظنّوا أنهم على حق، وما كانوا إلا في أقصى بعدٍ عنه. الاقتراب الحقيقي من الله هو ما يضمن أن الحقَّ حقٌّ.
حرب المؤمن الحقيقية تبدأ مع النفس والطبيعة الشريرة التي فيه ليقمعها (١كورنثوس٩: ٢٧)، ثم مع أجناد الشر الروحية، إبليس وملائكته (أفسس٦: ١٢) لهدم أفكاره ومواجهة خططه، وتحرير ضحاياه من يده بالوصول بهم إلى المخلِّص.
هناك من يستفيقون، ولكن متأخرًا جدًا؛ فيجدون العمر وقد ولّى في اللهث وراء السراب، وما ضاع قد ضاع ولا يمكن للوقت أن يعود.
اسمع ما قاله الحكيم «مَجْدُ الرَّجُلِ أَنْ يَبْتَعِدَ عَنِ الْخِصَامِ، وَكُلُّ أَحْمَقَ يُنَازِعُ... كَمُمْسِكٍ أُذُنَيْ كَلْبٍ (لا بد وأن يعقره الكلب)، هكَذَا مَنْ يَعْبُرُ وَيَتَعَرَّضُ لِمُشَاجَرَةٍ لاَ تَعْنِيهِ» (أمثال٢٠: ٣؛ ٢٦: ١٧).
واسمع أيضًا ما قاله الرسول بولس لتلميذه المحبوب تيموثاوس «فَكِّرْ بِهذِهِ الأُمُورِ، مُنَاشِدًا قُدَّامَ الرَّبِّ أَنْ لاَ يَتَمَاحَكُوا بِالْكَلاَمِ (يدخلوا في مجادلات كلامية). الأَمْرُ غَيْرُ النَّافِعِ لِشَيْءٍ، (بل) لِهَدْمِ السَّامِعِينَ... الْمُبَاحَثَاتُ الْغَبِيَّةُ وَالسَّخِيفَةُ اجْتَنِبْهَا، عَالِمًا أَنَّهَا تُوَلِّدُ خُصُومَاتٍ، وَعَبْدُ الرَّبِّ لاَ يَجِبُ أَنْ يُخَاصِمَ، بَلْ يَكُونُ مُتَرَفِّقًا بِالْجَمِيعِ» (٢تيموثاوس٢: ٢٣-٢٤).
لام أليشع جيحزي على خطئه بالقول «أَهُوَ وَقْتٌ؟» (٢ملوك٥: ٢٦). وعلينا أن نقولها لأنفسنا: أهو وقت للجدال والعراك والبطولات الوهمية في الواقع وعلى مواقع التواصل الاجتماعية؟ أهو وقت لإهدار الطاقات في مهاترات والبحث عن أمجاد من قشّ لن تصمد أمام نيران الاختبار؟ أهو وقت لإضاعة الفرص أن نخدم السيد ونعيش “لا لأنفسنا بل للذي مات لأجلنا وقام” (٢كورنثوس٥: ١٥)؟
يا نفسُ استفيقي فالعمر ما إلا بخار
لحظة ينتهي طيش الليل ويطلع النهار
وما عملتِ للحبيب إكرامُا وتمجيدًا
وحده يبقى ويكافأ في قيامة الأبرار