عندما تأتي كلمة “القداسة” في الحديث، يقفز مباشرة إلى الأذهان تكلفتها، مما يخيف الكثيرين منها أو يُشعِر البعض بأنه من شبه المستحيل أن نحيا مثل هذه الحياة. وحياة القداسة، بكل تأكيد، مكلِّفة؛ فقد تكلفك تضحيات كثيرة ورفض من البعض وجهاد ضد رغبات و...
والقداسة ببساطة هي أن نعيش بما يتوافق مع الإله الذي ننتمي إليه، وأن نعيش متشبهين به (١بطرس١: ١٥، ١٦).
وفي هذه المقالة أودّ الإجابة عن سؤال محدَّد: أيهما أكثر كلفة؛ القداسة أم النجاسة؟!!
والإجابة عليه يمكننا أن نجدها بالمقارنة بين سيرة أناس عاشوا القداسة مقابل من عاشوا النجاسة. وأفضل مقارنة في هذا المجال، يمكننا أن نخرج بها من أحداث حياة شخصيتين من الكتاب المقدس، هما: يوسف (تكوين٣٩-٤١) وشمشون (قضاة١٤-١٦). وسأركِّز المقارنة بينهما في النقاط التالية:
المبدأ
مبادئنا هي التي تحدِّد قراراتنا وتوجّهاتنا. ولا بد من وجود مبدإٍ يحكم الحياة، من الممكن أن يكون هذا المبدأ عظيمًا أو تافهًا، أنت الذي تختار.
وقيما يتعلق بيوسف وشمشون، المبدأ الذي كان يحكم كل منهما صنع فرقًا كبيرًا. ومن فَمِ كل منهما يمكننا أن نتعرف على المبدأين.
قال يوسف: «فَكَيْفَ أَصْنَعُ هذَا الشَّرَّ الْعَظِيمَ وَأُخْطِئُ إِلَى اللهِ؟». والغريب أن الناموس لم يكن قد أُعطي بعد، فلم يكن عند يوسف وصية تقول له «لا تزنِ» (خروج٢٠: ١٤). فمن أين تعلَّم هذا المبدأ؟ أولاً من ضميره، الضمير الذي جعله الله في دواخلنا لينبِّهنا للخطإ. ويظَلّ الضمير قائمًا بواجبه ما لم نخمده نحن بإرادتنا، ويوسف لم يفعل ذلك. كما أنه غالبًا كان يذكر درسًا قديمًا حدث مع جده إبراهيم عندما نزل إلى مصر ولم يَقُل إن سارة امرأته، فكاد فرعون يأخذها زوجة، لو لم يتدخل الله ويعلن أنه لا يقبل أن امرأة واحد تكون لآخر (تكوين٢٠: ١-١٣). وما حدث معنا ومع غيرنا مدرسة ينبغي أن نتعلم منها.
إذًا ما كان يحكمه هو مراعاته لقداسة الإله الذي يتعامل معه، ورغبته في التوافق معه.
أما شمشون فقال «إِيَّاهَا خُذْ لِي لأَنَّهَا حَسُنَتْ فِي عَيْنَيَّ». يمجرد أن رآها أعجبته، إنه “الحب من أول نظرة“!! فقرَّر أن يأخذها زوجة، بِغَضِّ النظر عن أن الشريعة، التي كانت موجودة أيامه، تمنعه من أن يأخذ امرأة أجنبية. وبفعلته أدخل نفسه في مشاكل لا حصر لها.
لقد كان مرأى عينيه، بمعنى أصح شهواته ورغباته الجامحة التي بلا حساب، هو ما يحكم قراراته. ولنتذكَّر ما حدث لعينيه في النهاية. قال الحكيم «اِفْرَحْ أَيُّهَا الشَّابُّ في حَدَاثَتِكَ، وَلْيَسُرَّكَ قَلْبُكَ فِي أَيَّامِ شَبَابِكَ، وَاسْلُكْ فِي طُرُقِ قَلْبِكَ وَبِمَرْأَى عَيْنَيْكَ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى هذِهِ الأُمُورِ كُلِّهَا يَأْتِي بِكَ اللهُ إِلَى الدَّيْنُونَةِ» (جامعة١١: ٩).
واحد اختار التقوى والأخر اختار الشهوة؛ فأيهما تختار؟!
التحدي
كان التحدي أمام يوسف رهيبًا: امرأة شريرة، ترغب في فعلة دنيئة، رتَّبت كل شيء بدقة وإحكام لتنفرد به في البيت، هي سيدته، وهو شاب صغير، عبدٌ، مضغوط من أحداث حياته، بعيدٌ عن دفء مشاعر البيت، مفتقد الحنان، ليس له من ينصحه؛ باختصار كل الظروف ضده وكفيلة بأن تدفعه للخطإ. هل أدركنا حجم التحدي الرهيب؟! كان عنده الكثير من الأعذار ليسقط، لكنه لم يسقط!
أما نوعية التحديات التي واجهت شمشون فكانت مجرد مضايقات تافهة. فامرأته «ضَايَقَتْهُ» فأخبرها بما سبَّب له متاعب. ودليلة «كَانَتْ تُضَايِقُهُ بِكَلاَمِهَا كُلَّ يَوْمٍ وَأَلَحَّتْ عَلَيْهِ» فأخبرها بأهم سر في حياته، سر قوته. ما أتفه هذا التحدي! وما أردأ تدليل النفس!
التكلفة
كانت كُلفة قرار يوسف هي ترك الثوب، الذي ربما كان الوحيد في ممتلكاته. ثم السجن ظلمًا. لكنه ارتضى دفع الكلفة حتى لا يخطئ إلى إلهه.
أما شمشون، أمام إلحاح امرأته، نقرأ ما حدث: «فَنَزَلَ إِلَى أَشْقَلُونَ وَقَتَلَ مِنْهُمْ ثَلاَثِينَ رَجُلاً، وَأَخَذَ سَلَبَهُمْ وَأَعْطَى الْحُلَلَ لِمُظْهِرِي الأُحْجِيَّةِ. وَحَمِيَ غَضَبُهُ وَصَعِدَ إِلَى بَيْتِ أَبِيهِ. فَصَارَتِ امْرَأَةُ شَمْشُونَ لِصَاحِبِهِ الَّذِي كَانَ يُصَاحِبُهُ». وهل يحتاج الأمر إلى تعليق؟!!
النهاية
العبرة بالنهايات. فليس الأهم شكل الطريق، ولا المتعة الوقتية، ولا الكُلفة المؤقته، بقدر ما أن الأهم هو النهاية، ولا سيما إن كانت دائمة ولا يمكن تغييرها.
بالنسبة ليوسف، قَالَ فِرْعَوْنُ لِيُوسُفَ: «انْظُرْ، قَدْ جَعَلْتُكَ عَلَى كُلِّ أَرْضِ مِصْر»، وهكذا أصبح في أعلى مراكز واحدة من أعظم دول العالم في ذلك الوقت. كل الناس قدَّروه وخضعوا له، حتى الذين حسدوه وباعوه سجدوا له أخيرًا. ولا أستبعد أن امرأة فوطيفار نفسها سجدت له!
أما بالنسبة لشمشون، فما أصعب الوضع: «وَابْتَدَأَتْ بِإِذْلاَلِهِ، وَفَارَقَتْهُ قُوَّتُهُ... وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الرَّبَّ قَدْ فَارَقَهُ. فَأَخَذَهُ الْفِلِسْطِينِيُّونَ وَقَلَعُوا عَيْنَيْهِ... وَكَانَ يَطْحَنُ فِي بَيْتِ السِّجْنِ». تخيل معي، امرأة زانية تذل هذا الرجل القوي! وتفارقه قوته ويضعف ويصير كواحد من الناس! ويا للهول: فارقه الرب! قُلعت عيناه اللتان أوقعتاه في كل هذا الذل! وفقد آدميته فصار كالحيوان يطحن في سجنه! ثم أخيرًا مات ميته ردية مع الأشرار وكواحد منهم، مع أنه ليس كذلك!
النجاسة، بما تشمل من أفكار شريرة وشهوة ومواقع إباحية وعلاقات ردية، تُذِل. يكفى الشعور بالهزيمة باستمرار، والخوف من الفضيحة وانكشاف الأمر، والضعف أمام هذه المذلات، وأن “يمسك عليَّ” أحدهم زلة.
ثم إن الانغماس في مثل هذه الأمور يفقدنا قوتنا الروحية ونخسر علاقتنا مع الرب، وما الحال عندئذ؟ وباقي ما حدث مع شمشون ممكن أن يحدث، بشكل أو آخر، مع أولئك الذين قادتهم مبادئهم إلى طريق النجاسة.
* * *
ألا ترى معي أنه إذا كانت حياة القداسة مكلِّفة، فإن حياة النجاسة أكثر كلفة.
عزيزي... ما هو اختيارك بعد جولتنا هذه؟
إذا كنت فد اخترت حياة القداسة، دعني أشجِّعك بهذه الكلمات: «قُدْرَتَهُ الإِلهِيَّةَ قَدْ وَهَبَتْ لَنَا كُلَّ مَا هُوَ لِلْحَيَاةِ وَالتَّقْوَى... لِكَيْ تَصِيرُوا بِهَا شُرَكَاءَ الطَّبِيعَةِ الإِلهِيَّةِ، هَارِبِينَ مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي فِي الْعَالَمِ بِالشَّهْوَةِ» (٢بطرس١: ٣، ٤). إن الله لا يقف موقف المتفرج وأنت تجاهد لمثل هذه الحياة، بل هو في صفك بكل قدرته. وقد وهبك طبيعة جديدة، كطبيعته، تمكِّنُك من أن تعيش هذه الحياة المجيدة.
هيا تشجع! قم بتغذية طبيعتك الجديدة بأمور الله، واتكل عليه وهو يُجري.