حكاية غصن


لنتابع معًا الحكاية، اقرأ من فضلك تكوين٤٩: ٢٢-٢٦

توقَّفنا في العدد السابق عند سر الجمال في حياة يوسف، الغصن المثمر، وهو مبدأ “الموت أولاً”. وذكرت أنني بحثت في الكتاب عن “العين” التي غرس يوسف نفسه عليها حتى يحمل هكذا أحلى الثمار، فوجدت أنها متاحة لي ولك، المصادر الإلهية للحياة المثمرة.

بلا شك كان يوسف «تَحْتَ الآلاَمِ مِثْلَنَا» (يعقوب٥: ١٧)، لكنه كان “فوق الظروف والمنظور” (٢كورنثوس٤: ١٨)، وما أعانه على ذلك «العين» التي غُرس عليها.

وجد داود أيضًا هذه العين، فكان يسحب نفسه إليه كل يوم باكرًا «كَمَا يَشْتَاقُ الإِيَّلُ إِلَى جَدَاوِلِ الْمِيَاهِ، هكَذَا تَشْتَاقُ نَفْسِي إِلَيْكَ يَا اللهُ» (مزمور٤٢: ١). «يَا اَللهُ، إِلهِي أَنْتَ. إِلَيْكَ أُبَكِّرُ. عَطِشَتْ إِلَيْكَ نَفْسِي، يَشْتَاقُ إِلَيْكَ جَسَدِي فِي أَرْضٍ نَاشِفَةٍ وَيَابِسَةٍ بِلاَ مَاءٍ» (مزمور٦٣: ١). العين هي “الشركة الشخصية مع الرب”.

وفي مزمور١: ٣ «فَيَكُونُ كَشَجَرَةٍ مَغْرُوسَةٍ عِنْدَ مَجَارِي الْمِيَاهِ، الَّتِي تُعْطِي ثَمَرَهَا فِي أَوَانِهِ، وَوَرَقُهَا لاَ يَذْبُلُ. وَكُلُّ مَا يَصْنَعُهُ يَنْجَحُ»، نجد نبعًا آخر وهو كلمة الله.

وفي يوحنا٤: ١٤ «وَلكِنْ مَنْ يَشْرَبُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى الأَبَدِ، بَلِ الْمَاءُ الَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ». كلمنا الرب يسوع عن “الروح القدس” باعتباره الينبوع الذي يروي، بل ويجعل صاحبه «تَجْرِي مِنْ بَطْنِهِ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ» (يوحنا٧: ٣٨).

ويعلِّمنا الكتاب أن المؤمنين - بيت الله - أيضًا هم نبع للفرح والشبع بعضهم لبعض، مزمور٣٦: ٨ «يَرْوَوْنَ مِنْ دَسَمِ بَيْتِكَ، وَمِنْ نَهْرِ نِعَمِكَ تَسْقِيهِمْ».

هذه المصادر هي كلها من نصيب كل أولاد الله، لكن ما يصنع الفرق هو: أين نحن منها؟

لنتوقف الآن قليلاً عند قول يعقوب عن يوسف «أَغْصَانٌ قَدِ ارْتَفَعَتْ فَوْقَ حَائِطٍ». أو كما جاء في إحدى الترجمات “أغصانه تتسلق السياج”. والمعنى واضح وجميل، فكما كانت هناك معونات للثمر، كان هناك معوقات. وكان يوسف ناجحًا، ليس فقط لأنه استفاد من المعونات، لكنه تدرَّب كيف يتغلب على المعوقات.

هناك نوعية من النباتات تسمى “النباتات المتسلقة”، من أشهرها شجرة العنب “الكرمة”، التي تتميز بقدرتها على النمو والإثمار بالرغم من الحواجز والسياجات التي تحيط بها.

كان يوسف هكذا “متسلق حواجز”. والتشجيع هنا لك ولي يا صديقي: لا تقف أمام الحواجز، بل بنعمة الله تسلَّقها.

ولكي نكتسب هذه الإمكانية، أرى أننا نحتاج لأربعة أمور هي: محبة، مهارة، مرونة، مثابرة.

أولاً: محبة

نحن بالغريزة نحب الحياة، والعلاقة الصحيحة مع الله تجعلنا نحب «الحياة الأفضل» (يوحنا١٠:١٠؛ ١بطرس٣: ١٠). والخبر المدهش أن حياة المسيح تسري في كيان المؤمنين به، فتثمر فيها صفات المسيح، ولا أحلى (يوحنا١٥)!

سمع زكا عن يسوع، فطلب أن يرى من هو. كان عنده عائق طبيعي وهو أنه «قَصِيرَ الْقَامَةِ»، لكنه تسلق شجرة ليرى يسوع. وكان هذا “التسلق” عمل محبة غيَّر حياة زكا من ذلك اليوم فصاعدًا (لوقا١٩).

ارتفع يوسف فوق بغضة إخوته وأحبّهم، وبدَلَ موتهم في الجوع عاشوا وأثمروا «وَسَكَنَ إِسْرَائِيلُ فِي أَرْضِ مِصْرَ، فِي أَرْضِ جَاسَانَ، وَتَمَلَّكُوا فِيهَا وَأَثْمَرُوا وَكَثُرُوا» (تكوين٤٧: ٢٧).

ارتفع المسيح فوق حائط “التعصب” في حديثه مع المرأة السامرية (يوحنا٤: ١-٣٠)، ذلك الحاجز الرهيب بين اليهود والسامريين. وعندما صدَّته بهذا الحاجز وقالت «كَيْفَ تَطْلُبُ مِنِّي لِتَشْرَبَ، وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ وَأَنَا امْرَأَةٌ سَامِرِيَّةٌ؟» تخطّاه مُرَكِزًا على احتياجها، ليس على هويتها أو استحقاقها. ولا يفعلن ذلك سوى الحب.

ثانيًا: مهارة

المهارة هي إمكانية خاصة تمكن صاحبها من إنجاز شيء ما. هناك مهارات نولد بها لكن نحتاج أن ننميها، وهناك مهارات نكتسبها من خلال تدريباتنا في الحياة.

تعلَّم يوسف مهارات العبودية ثم السيادة! تصرف في بيت فوطيفار وكأنه عبد عاش حياته كلها في العبودية. وقبل أن يصل إلى العرش كان قد تأهل بشكل كافٍ ليكون مقنعًا جدًا لفرعون وللمصريين، حتى إن فرعون قال له «لَيْسَ بَصِيرٌ وَحَكِيمٌ مِثْلَكَ» (تكوين٤١: ٣٩).

ما يعجبني في هذا الجزء من القصة هو أن الله علَّم يوسف هذه المهارات، وميَّز فرعون ذلك فقال له «أَعْلَمَكَ اللهُ كُلَّ هذَا» (تكوين٤١: ٣٩). وقال عنه يعقوب «وَتَشَدَّدَتْ سَوَاعِدُ يَدَيْهِ. مِنْ يَدَيْ عَزِيزِ يَعْقُوبَ، مِنْ هُنَاكَ، مِنَ الرَّاعِي صَخْرِ إِسْرَائِيلَ» (تكوين٤٩: ٢٤). فقط تدرَّب بالصعوبات التي تواجهها، والله سيعلِّمك المهارات المطلوبة.

إن أردنا أن نؤثِّر في أشخاص أو ثقافة ما، علينا على الأقل أن نتعلم شيئًا عنها، بالتأكيد تعلَّم يوسف الهيروغليفية وعادات المصريين القدماء، احترم عادات المصريين في الأكل والمخالطة (تكوين٤٣: ٣٢؛ ٤٦: ٣٣)، ولم يكن لديه مانع أن يأخذ اسمًا مصريًا ويتزوَّج من مصرية، طالما كان كل ذلك ليس ضد فكرالله من جهته.

تعلم بولس ذات الأمر وقال في ١كورنثوس٩: ٢٠-٢٢ «فَصِرْتُ لِلْيَهُودِ كَيَهُودِيٍّ لأَرْبَحَ الْيَهُودَ. وَلِلَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ كَأَنِّي تَحْتَ النَّامُوسِ لأَرْبَحَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ. وَلِلَّذِينَ بِلاَ نَامُوسٍ كَأَنِّي بِلاَ نَامُوسٍ ­ مَعَ أَنِّي لَسْتُ بِلاَ نَامُوسٍ ِللهِ، بَلْ تَحْتَ نَامُوسٍ لِلْمَسِيحِ ­ لأَرْبَحَ الَّذِينَ بِلاَ نَامُوسٍ. صِرْتُ لِلضُّعَفَاءِ كَضَعِيفٍ لأَرْبَحَ الضُّعَفَاءَ. صِرْتُ لِلْكُلِّ كُلَّ شَيْءٍ، لأُخَلِّصَ عَلَى كُلِّ حَال قَوْمًا».

إذا دعاك الله لعمل فائق، سيمدَّك بالمهارات اللازمة. دعا الله بصلئيل بن أورى لتنفيذ مصمَّم خيمة الاجتماع، وهو أمر حساس جدًا لأنها خيمة الله، لا مكان للخطإ فيها، والأمر لم يعمله قبلاً؛ لكن الله الذي دعاه ملأه من روحه «مهارة وفهما معرفة وقدرات كبيرة» (خروج٣٥: ٣١ كما جاءت في إحدى الترجمات).

وللحديث بقية في العدد القادم