تم ربطها زورًا في الأذهان، فعرقلت بشدة خطوات الإنسان،
وتعامل معها على أنها حقيقة دامغة، ولم يعلم أنها في الأصل زوان.
العلاقة الوجدانية
في حياة الإنسان الكثير من الأرقام؛ بعضها لا يختاره (مثل سنة ميلاده، وعدد أسرته، ورقم التطعيمات المؤلمة التي أخذها في طفولته)، والبعض الأخر يختارها الإنسان (مثل تاريخ زواجه، أو عدد أولاده وبناته، أو رقم سفرياته ورحلاته) وغيرها من الأرقام.
والأمر لا يتوقف عند هذا، ولكن هناك علاقة وجدانية بين الأرقام وبين الإنسان؛ فكثير منها يؤثِّر، إيجابًا أو سلبًا، في حالته النفسية والفكرية أيضًا؛ فبينما يتشاءم الأوربيون من الرقم ١٣، مما يجعل بعض الفنادق تحذفه من غرفها، أو تكتب على الغرفة من الخارج (١٢+١)، نجد أن الصينيون يصل بهم الإيمان بالرقم ٨ إلى حد ربط كل أمور السعادة والراحة به، حتى أنهم قرروا أن يكون يوم افتتاح أولمبياد بيكين يوم ٨/٨/٢٠٠٨ الساعة الثامنة وثمان دقائق!!
العلاقة الغير الطردية
والحقيقة أن المشكلة ليست في الأرقام التي يتفاءل أو يتشاءم البعض منها، ولكن المشكلة تكمن حين يربط الإنسان راحته ببعض الأرقام التي يلهث ورائها، بحثًا عن زيادة “رقم” حسابه في البنك ليرتاح ماديًا، أو رغبةً في تحديث “رقم” موديل سيارته ليرتاح جسديًا، أو طمعًا في زيادة أطيانه وعقاراته ليرتاح اجتماعيا، وكلما زادت هذه الأرقام كلما زادت الراحة المرجوة منها.
ولكن تبدو لي أن العلاقة بين الأرقام والراحة ليست طردية على الدوام؛ ففرنسا مثلاً هي أكثر دولة يزورها السياح سنوياً (٨٥ مليون سائح سنويًا)، وهي أكثر دولة مكتئبة في العالم the world’s most depressed nation، بحسب منظمة الصحة العالمية who، ونسبة ٢١.٤٪ من شعبها يستهلكون ١٠٩ مليون عبوة من مضادات الاكتئاب سنويًا!! فليس بزيادة الأرقام تُجلب الراحة للإنسان.
الرقم الرهيب
والحقيقة أنه فيما يهتم البشر بأرقام يظنون أنها ستريحهم، فإنهم يتجاهلون - عمدًا أو جهلاً - رقمًا رهيبًا هو سر شقائهم ومنبع تعبهم؛ وهو رقم خطاياهم وآثامهم المتراكمة عليهم، والتي مكتوب عن الخطية منها «لأَنَّ أُجْرَةَ الْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ» (رومية٦: ٢٣)، فما بالك بملايين الخطايا التي يرتكبها الإنسان عبر السنين.
ومن هنا تأتي أهمية دعوة المسيح: «تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ» (متى١١: ٢٨)، فالمسيح لم يقُل تعالوا إلىَّ وأنا أعطيكم... فترتاحوا، فهو يدرك أن الراحة الحقيقة لا تأتي من أرقام خارجية للإنسان، ولكن تأتي فقط عندما يتقابل الإنسان مع المسيح الذي ينزع أحماله الثقيلة؛ سواء كانت خطايا مُذلّة أرتكبها، أو أعمال ناموسية فشل في تحقيقها.
فراحة التي يعطيها المسيح ليست راحة وهمية مؤقّتة، مثلما يفعل بعض المعالجين النفسيين أو المصلحيين الاجتماعيين، الذين يحاولون صرف نظر الناس عن مشاكلهم، واصطناع راحة مزيفة داخلهم، ولكن المسيح يقدِّم راحة حقيقية لأنه هو بذاته «الَّذِي حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايانَا فِي جَسَدِهِ عَلَى الْخَشَبَةِ» (١بطرس٢: ٢٤)، وهو أيضًا الذي «أَخَذَ أَسْقَامَنَا وَحَمَلَ أَمْرَاضَنَا» (متى٨: ١٧).
وما لم ينتبه الإنسان لإزالة هذا الرقم الرهيب من حياته، فإنه لن يعرف أي راحة، لا في حاضره، ولا حتى في مستقبله، وستتم فيه هذه الكلمات الصعبة «وَيَصْعَدُ دُخَانُ عَذَابِهِمْ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ. وَلاَ تَكُونُ رَاحَةٌ نَهَارًا وَلَيْلاً...» (رؤيا١٤: ١١).
الخضوع المُريح
ولم تتوقف دعوة المسيح عند مرحلة الراحة من الخطايا والأحمال، ولكنه استطرد قائلاً: «اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ» (متى١١: ٢٩)، وهي دعوة تثير الأسئلة: فكيف يريد المسيح أن يريحنا وهو يقول لنا: احملو نيري؟! ثم ما علاقة كون المسيح متواضع القلب براحة نفوسنا نحن؟!
الحقيقة أن كل الأسئلة السابقة طالما حيرتني، حتى وجدت إجابة لبعضها في قصة الغني الذي أكرمه الله بزيادة أرقام ثماره عن أي توقعات، ولكنه للأسف ظن أن هذه الأرقام الكثيرة يمكن أن تعطيه الراحة الوفيرة.
فنقرأ عن رجل الأعمال هذا «ِإنْسَانٌ غَنِيٌّ أَخْصَبَتْ كُورَتُهُ، فَفَكَّرَ فِي نَفْسِهِ قَائِلاً: مَاذَا أَعْمَلُ، لأَنْ لَيْسَ لِي مَوْضِعٌ أَجْمَعُ فِيهِ أَثْمَارِي؟ وَقَالَ: أَعْمَلُ هذَا. أَهْدِمُ مَخَازِنِي وَأَبْنِي أَعْظَمَ، وَأَجْمَعُ هُنَاكَ جَمِيعَ غَّلاَتِي وَخَيْرَاتِي، وَأَقُولُ لِنَفْسِي: يَا نَفْسُ لَكِ خَيْرَاتٌ كَثِيرَةٌ، مَوْضُوعَةٌ لِسِنِينَ كَثِيرَةٍ. اِسْتَرِيحِي وَكُلِي وَاشْرَبِي وَافْرَحِي!» (لوقا١٢: ١٦-١٩).
لم يكن مرتاحًا، بدليل أنه كان يُمنّي نفسه بالمخازن الجديدة التي سيضع فيها أثماره حتى يستريح، ووضع احتياجه للراحة قبل احتياجه للأكل والشرب، فقال: استريحي وكلي واشربي وافرحي.
وفي رأيي المتواضع، هناك سببان لعدم الراحة عند هذا الغني، الأول أنه فكَّر في نفسه، وهو لا يعني فقط الأنانية وحب الذات، ولكنه يعني أيضًا عولان الهم من كثرة التفكير في المشاكل والحلول، والتي تنزع أي راحة من الإنسان. أما السبب الآخر لعدم الراحة، فهو أن هذا الغني خطَّط لنفسه، فسأل: ماذا أعمل؟ ثم أجاب على نفسه: أعمل هذا. وهذا مصدر رهيب للقلق والخوف، لأنه حين يتخذ الإنسان مركز القائد في حياته، فإنه يجلب لنفسه الهم غير المحدود، لأنه سيفاجأ أنه محدود الحكمة والمعرفة والقدرة.
وهنا تكمن أهمية دعوة المسيح للراحة «اِحْمِلُوا نِيرِي... وَتَعَلَّمُوا مِنِّي... فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ»، فعندما نحمل نير المسيح الهين، فلن نفكر في أنفسنا مثل هذا الغني، ولكن سنفكّر فقط في تحقيق مشيئته، وهذا يكسب حياتنا متعة غير عادية. وعندما نتعلّم من المسيح لأنه متواضع القلب، فسنكفّ عن قيادة حياتنا بأنفسنا، وسنتخذ المركز الأصغر المتواضع، وسيكون المسيح هو المعلّم والمشير لنا، وهذا ينهر أي قلق أو خوف من حياتنا.
عزيزي القارئ، لا تحصر راحتك في أرقام تلهث ورائها، ثم ستكتشف زيف مدلولاتها وخوار من يستند عليها، ولكن تأكد أولاً من أنك تركت رقم خطاياك الرهيب الذي يؤرقك، واقبل يوميًا أن تحمل نير المسيح وتخضع لمشيئته، لأن الله العلي سيكون هو المخطِّط والقائد لحياتك، ووقتها ستختبر أرقام جديدة من البركات والأمجاد، وستهتف فرحًا: «كَثِيرًا مَا جَعَلْتَ أَنْتَ أَيُّهَا الرَّبُّ إِلهِي عَجَائِبَكَ وَأَفْكَارَكَ مِنْ جِهَتِنَا. لاَ تُقَوَّمُ لَدَيْكَ. لأُخْبِرَنَّ وَأَتَكَلَّمَنَّ بِهَا. زَادَتْ عَنْ أَنْ تُعَدَّ» (مزمور٤٠: ٥)، وهذه هي الأرقام التي تجلب الراحة.