الكلمات الأخيرة لمن هم على فراش المرض دائمًا ما تحظى باهتمام كبير، خصوصًا إن كان قائلها يتمتع بشهرة خاصة، حتى إننا أعتدنا عند قراءة كتب تروي لنا قصص حياتهم أن نجد فصلاً أخيرًا يحكي لنا تفاصيل اللحظات الأخيرة في حياة هؤلاء المشاهير، والكلمات التي قالوها في تلك اللحظات. وترجع أهمية هذه الكلمات أنها تُعتبر خلاصة خبرتهم بالحياة. وقد وقع بين يديَّ موخَّرًا كلمات تُنسب إلى واحد من أشهر الشخصيات العالمية المعاصرة في مجال الكمبيوتر والبرمجيات. وقد مات بعد صراع طويل مع السرطان، تاركًا وراءه شركة بلغت قيمتها السوقية مئات المليارات من الدولارات الأمريكية.
من هنا تأتي أهمية ما كتبه قبيل رحيله عن عالمنا، إذ يوضِّح خلاصة ما وصل إليه هذا العبقري، بعد كل ما حققه خلال حياته على الأرض. كتب يقول: “وصلت لقمة النجاح في الأعمال التجارية في نظر الآخرين، حياتي كانت رمزًا للنجاح، ومع ذلك وبصرف النظر عن العمل، كان لديَّ القليل من الوقت للفرح. وأخيرًا، في النهاية ثروتي هي مجرد حقيقة أصبحت معتادًا عليها. الآن وأنا مُمدد على سريري في المستشفى أتذكَّر حياتي الطويلة، أدرك أن جميع الجوائز والثروات التي كنت فخورًا جدًا بها أصبحت ضئيلة وغير ذات معنى مع اقتراب الموت الذي صار وشيكًا. في هذا الظلام، عندما أنظر للأضواء الخضراء لمعدات التنفس الإصطناعي منصتًا لأصواتها الميكانيكية، أشعر بأنفاس الموت تقترب مني. الآن فقط أفهم بعد أن أمضيت حياتي محاولاً جمع ما يكفي من المال لبقية حياتي، أنني خسرت وقتًا كثيرًا كان يمكنني فيه تحقيق أهداف أخرى لا تتعلق بالثروة. يجب أن تكون أهدافنا أكثر أهمية، فملاحقة الثروة تجعل منك شخصًا منهَكًا طوال الوقت، شبيهًا بالإنسان الآلي. نحن كائنات يمكن أن تشعر بالحب، فالحب كامن في قلب كل واحد منا. ومصيرنا لا يجب أن يكون فقط في الجري وراء الأوهام، التي تبنيها الشهرة أو المال. اللذان أفنيت حياتي لأجلهما ولا يمكنني أن آخذهما معي الآن. الحب يمكن أن يسافر آلاف الأميال وهكذا تصبح الحياة لا حدود لها.”
ثم ختم رسالته المطولة بهذه الكلمات: “مهما كانت المرحلة التي نعيشها من حياتنا، سنضطر في النهاية لمواجهة اليوم الذي سيُسدل فيه الستار. ولا تنسى أن شيئًا واحدًا لا يمكنك أبدًا تعويضه إن ضاع منك، إنها حياتك”.
كانت هذه هي رسالة الرجل الأخيرة وهو يُصارع السرطان، لكن من الواضح أنه كان يعاني من صراع آخر أشد وطأة؛ إنه صراع الفكر ومراجعة النفس بعد حياة مليئة بالعمل، والتفكير، والإنجازات؛ والإخفاقات، والنجاحات. كتب هذه الكلمات لك ولي، ليؤكِّد لنا أن النجاح لا يُعطي فرحًا، ولا الثروة والغنى الجزيل يُعطي سعادة حقيقية، ولا الشهرة كافية لإشباع القلب. في نهاية الحياة كل الجوائز والثروات لا تُبهر. يا لها من حقيقة صادمة. هل نُدرك مدى الشعور بالفراغ الرهيب!!
وصف الحكيم سليمان هذا الشعور الصعب بقوله «لأَنَّهُ مَاذَا لِلإِنْسَانِ مِنْ كُلِّ تَعَبِهِ، وَمِنِ اجْتِهَادِ قَلْبِهِ الَّذِي تَعِبَ فِيهِ تَحْتَ الشَّمْسِ؟ لأَنَّ كُلَّ أَيَّامِهِ أَحْزَانٌ» (جامعة٢: ٢٢، ٢٣)، كما يقول في موضع آخر من ذات السفر «كَمَا خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ عُرْيَانًا يَرْجعُ ذَاهِبًا كَمَا جَاءَ، وَلاَ يَأْخُذُ شَيْئًا مِنْ تَعَبِهِ فَيَذْهَبُ بِهِ فِي يَدِهِ... فَأَيَّةُ مَنْفَعَةٍ لَهُ، لِلَّذِي تَعِبَ لِلرِّيحِ؟» (جامعة٥: ١٥-١٦). ها الحكيم يخبرنا أن التعب والاجتهاد ليس دائمًا نتيجته السعادة والفرح.
يذكر صاحبنا أيضًا أمرًا غاية في الأهمية والخطورة، هو ضياع الهدف. لقد شعر أنه أهدر وقتًا كبيرًا من حياته في اللهث وراء جمع المال، واكتساب الشهرة. إلا أنه يشعر الآن وهو على فراش الموت أنه كان ينبغي أن يقضي حياته في الجري وراء أهداف أخرى أعظم وأكثر أهمية. وهذا ما وصفه لنا الحكيم سليمان عندما قال: «فَكَرِهْتُ كُلَّ تَعَبِي الَّذِي تَعِبْتُ فِيهِ تَحْتَ الشَّمْسِ حَيْثُ أَتْرُكُهُ لِلإِنْسَانِ الَّذِي يَكُونُ بَعْدِي» (جامعة٢: ١٨). درس هام جدًا لنا، يجعلنا نراجع الأهداف التي نضعها أمامنا في الحياة، ونسأل أنفسنا عن قيمتها، ومدى تأثيرها على حياتنا. وهل ستجلب لنا السعادة الحقيقية أم أننا سنكتشف بعد مرور السنين أنها كانت أهدافًا وهمية لا قيمة لها؟ فيا له من شعور رهيب بخيبة الأمل عندما يصل الإنسان للنهاية ليكتشف أنه لم يتمتع بما قضى حياته كلها في جمعه، واللهث وراءه «إِذَا كَثُرَتِ الْخَيْرَاتُ كَثُرَ الَّذِينَ يَأْكُلُونَهَا، وَأَيُّ مَنْفَعَةٍ لِصَاحِبِهَا إِلاَّ رُؤْيَتَهَا بِعَيْنَيْهِ؟» (جامعة٥: ١١).
الفكرة الأخيرة التي طرحتها الرسالة أعتقد أنها تحمل في طياتها الحل لكل ما كان يعاني منه. لقد تكلم في نهاية رسالته عن الحب. الحب الذي يسافر بك ليجعل الحياة بلا حدود. الحب الذي يعطش إليه القلب البشري هو الحل لكل متاعب القلب. الحب الحقيقي عندما نلتقي به، ونرتوي منه سنجد المعنى الحقيقي للحياة. وسنجد فيه الهدف الحقيقي لوجودنا على الأرض. أنت وأنا نحتاج للحب، لأن الله خلقنا لنتمتع بالحب، وصمم كياننا متعطشًا لهذا الحب طوال الوقت؛ فالطفل الصغير يحتاج للمسات الحب، والشاب يحتاج لكلمات الحب، والشيخ يتوق للغة الحب. الرجل والمرأة يحتاجان للحب. والكتاب المقدس، الذي هو كلمة الله، يعلن لنا أن الإنسان في داخله احتياج عميق للحب، كما يعلن لنا أن الله محبة. نحن في حاجة للحب، والله لدية نبع الحب كله.
إن تمتعنا بحب الله، ووضعنا كل اتكالنا وثقتنا فيه وفي قلبه المحب، فسنتمتع بكل ما في الحياة وسنكتشف الهدف الرائع للحياة. وقتها حتى الثروة والجوائز ستكون لها طعم مختلف. الله لا يريدنا أن نفشل أو نُحبط، وهو ليس ضد النجاح في العمل، ولا ضد التميُّز. إنما المشكلة في القلب البشري الذي يريد أن يفعل كل ذلك بالاستقلال عنه. هنا تكمن المشكلة، وهنا تبدأ المعاناة الحقيقية.
أخي/أختي.. هذه الكلمات بمثابة دعوة جديدة لاكتشاف المعنى الحقيقي للحياة، أن تبدأ بداية حقيقية مع الله. تائبًا، طالبًا خلاصه لقلبك وحياتك، واثقًا في غفرانه لكل خطاياك. صلِّ أن يمتِّعك الله بقلب جديد. هنا تبدأ الحياة الصحيحة، إنها ذات اللحظة التي ستشعر فيها بالراحة والفرح الذي يبحث عنه المشاهير والعظماء عبر التاريخ. لا تتردد، ولا تؤجل إن كنت تبحث عن الفرح والراحة ففي المسيح راحتك الحقيقية. إن كنت تشعر بفراغ داخلي عميق، فالمسيح وحده يستطيع أن يملأ هذا الفراغ، ويجعل حياتك ذات قيمة وهدف عظيم جدًا. وبما أننا نتكلم عن الخلاصة فخلاصة ما قاله الحكيم سليمان بعد حياة طويلة مليئة بالحكمة والغنى والمتع الزائلة قال: «فَاذْكُرْ خَالِقَكَ فِي أَيَّامِ شَبَابِكَ، قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَ أَيَّامُ الشَّرِّ أَوْ تَجِيءَ السِّنُونَ إِذْ تَقُولُ: "لَيْسَ لِي فِيهَا سُرُورٌ"» (جامعة١٢: ١).