بعد النصرة جاء رجال أفرايم، وهم شعب عظيم، وخاصموه بشدة. ودائمًا الجسد يغار ممن هو أفضل منه وأكثر نجاحًا، ولا يفرح بما يعمله الله بواسطة آخرين. هذا يعكس الحالة الداخلية للشعب. إن روح مديان هي الخصام والنزاع. وبالأسف أصبح الانتصار موضع نزاع ومخاصمات. وإذا لم نكن في محضر الله سنفهم إخوتنا بشكل خاطئ، ونفسر الأمور بشكل خاطئ. والجسد يميل للتحزب والانقسام. وهنا نرى الصراع الأخوي وسط شعب الرب. والشيطان إما أن يهاجم الشهادة من الخارج أو يهاجمها من الداخل. هذا ما حدث في تاريخ إبراهيم عندما انحدر إلى مصر، وعندما حدثت المخاصمة بين رعاة مواشي أبرام ورعاة مواشي لوط. إن الفكر الواحد ضرورة لنجاح الشهادة، ولهذا قال الرسول بولس للمؤمنين في فيلبي: «فَتَمِّمُوا فَرَحِي حَتَّى تَفْتَكِرُوا فِكْرًا وَاحِدًا وَلَكُمْ مَحَبَّةٌ وَاحِدَةٌ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، مُفْتَكِرِينَ شَيْئًا وَاحِدًا، لاَ شَيْئًا بِتَحَزُّبٍ أَوْ بِعُجْبٍ، بَلْ بِتَوَاضُعٍ» (فيلبي٢: ٢، ٣). هذا ما فعله جدعون لكي يحتوي المشكلة بحكمة واتضاع، وبذلك انتصر على كبرياء أفرايم. «اَلْجَوَابُ اللَّيِّنُ يَصْرِفُ الْغَضَبَ» (أمثال١٥: ١)، و«اَلْحِكْمَةُ خَيْرٌ مِنْ أَدَوَاتِ الْحَرْبِ» (جامعة٩: ١٨). فَقَالَ لَهُمْ: ««مَاذَا فَعَلْتُ الآنَ نَظِيرَكُمْ؟ لِيَدِكُمْ دَفَعَ اللهُ أَمِيرَيِ الْمِدْيَانِيِّينَ... حِينَئِذٍ ارْتَخَتْ رُوحُهُمْ عَنْهُ».
ترك أفرايم رجال جدعون يواصلون المسيرة، لقد عبروا الأردن وكانوا مُعيين ومُطارِدين. بذات الروح التي بدأوا بها الحرب في ص٧ ليواصلوا الجهاد رغم الجوع والتعب والإعياء. هذا يذكرنا بما قاله الرب لملاك كنيسة أفسس: «وَقَدِ احْتَمَلْتَ وَلَكَ صَبْرٌ، وَتَعِبْتَ مِنْ أَجْلِ اسْمِي وَلَمْ تَكِلَّ» (رؤيا٢: ٣). كانوا يسعون وراء زبح وصلمناع ملكي مديان، وبالأسف جدعون لم يلقَ معونة ممن توقع أن يجد فيهم المعونة ولمسات المحبة. رجال سكوت سخروا منه، وفي عدم إيمان قالوا له «هَلْ أَيْدِي زَبَحَ وَصَلْمُنَّاعَ بِيَدِكَ الآنَ حَتَّى نُعْطِيَ جُنْدَكَ خُبْزًا؟». سكوت قبل سنوات طويلة سكن فيها يعقوب أبيهم، وتعلم فيها درسًا قاسيًا لأنه كان يفكر في نفسه وفي مواشيه فقط، فبنى لنفسه بيتًا وصنع لمواشيه مظلات (تكوين٣٣)، ولم يفكر في بيت إيل أو أمور إله بيت إيل. و«لأَنَّ مَنْ يَزْرَعُ لِجَسَدِهِ فَمِنَ الْجَسَدِ يَحْصُدُ فَسَادًا». هكذا هنا أهل سكوت كانوا يفكرون في ذواتهم، والأنانية تسيطر عليهم، فلم يقبلوا أن يقدِّموا طعامًا لرجال جدعون الذين كانوا يحاربون حروب الرب. تمامًا مثلما حدث مع نابال الكرملي نحو داود ورجاله (١صموئيل٢٥). بعد فترة، النوارج وأشواك البرية علَّمت أهل سكوت درسًا قاسيًا. فليحفظنا الرب من نظرة العيان والتمسك بالأمور التي تُرى.
بعد ذلك جاء إلى فنوئيل، وهو أيضًا مكان ارتبط بذكريات مقدسة في تاريخ يعقوب أبيهم. ففي هذا المكان كان الرب يصارع يعقوب حتى طلوع الفجر، ولما رأى أنه لا يقدر عليه، ضرب حق فخذه فانخلع، هناك بكى يعقوب واسترحمه، وتعلق به قائلاً: «لاَ أُطْلِقُكَ إِنْ لَمْ تُبَارِكْنِي، وَبَارَكَهُ هُنَاكَ» (تكوين٣٢). هناك تعلم يعقوب بُطلان الاتكال على الجسد، هناك أشرقت له الشمس، وهناك تغير اسم يعقوب إلى إسرائيل، واسم المكان من “يبوق” التي تعني “إفراغ” إلى “فنوئيل” التي تعني “وجه الله”. كان ينبغي أن يعرف أهل فنوئيل أن جدعون هو ابن إسرائيل حقًا وأن قوة الله في ضعفه تكمل، وأن الله يعمل مع هؤلاء المُعيين والمُطاردين. لكن هذا لم يحدث. لقد اكتفوا بالبرج في فنوئيل وكانوا يفتخرون بالامتيازات الجسدية فقط دون أن يستفيدوا من الدرس الروحي المرتبط بالمكان. ونحن أيضًا آباؤنا ساروا مع الله وصارعوا معه وتجردوا من قوتهم الجسدية وكل ما يفتخر به الإنسان من امتيازات، فهل نتمسك بالدرس الروحي وندرك ضعفنا واحتياجنا إلى قوته. لنحذر من روح لاودكية والافتخار بالغنى المادي أو المعرفة الكتابية أو كثرة العدد والأنشطة بدون تقوى واتضاع. جدعون حذرهم أنه سيهدم هذا البرج.
وصل جدعون إلى ملكي مديان في “قرقر” والتي تعني مدينة الدمار. هناك ظنوا أنهم آمنين، وهي صورة متكررة لهذا العالم الذي يبدو آمنًا ومستقرًا، «لأَنَّهُ حِينَمَا يَقُولُونَ: “سَلاَمٌ وَأَمَانٌ”، حِينَئِذٍ يُفَاجِئُهُمْ هَلاَكٌ بَغْتَةً، كَالْمَخَاضِ لِلْحُبْلَى، فَلاَ يَنْجُونَ»، كلص في الليل. وهذا ما حدث هنا. زبح تعني ذبيحة أو ذبح، وصلمناع تعني الظل الممنوع. وهناك مشابهة بين أميري مديان غراب وذئب، وبين ملكي مديان زبح وصلمناع. فغراب طائر الظلام، وصلمناع هو الظلام نفسه. وكلاهما يتكلمان عن النجاسة والفساد. وذئب هو الوحش المفترس، وزبح هو القاتل نفسه. وكلاهما يتكلمان عن الشراسة والقسوة. غراب وذئب يمثلان صفات الطبيعة الساقطة، أما زبح وصلمناع فيمثلان الشيطان الذي يحرك هذه الطبيعة. الشيطان هو سلطان الظلمة، وهو القتَّال للناس من البدء. قتل الملكين يعني إبطال قوتهما وسطوتهما، وهذا ما تحقق في صليب المسيح.
إن لحظة الانتصار هي لحظة الخطر. «كَيْفَ الرِّجَالُ الَّذِينَ قَتَلْتُمَاهُمْ فِي تَابُورَ؟» فَقَالاَ: «مَثَلُهُمْ مَثَلُكَ. كُلُّ وَاحِدٍ كَصُورَةِ أَوْلاَدِ مَلِكٍ». فَقَالَ: «هُمْ إِخْوَتِي بَنُو أُمِّي». وما أبعد ذلك عن قوله: «هَا عَشِيرَتِي هِيَ الذُّلَّى فِي مَنَسَّى». وعندما طلب منه كل إسرائيل بعد النصرة أن يتسلط عليهم هو وابنه وابن ابنه، رفض هذا العرض وقال: «اَلرَّبُّ يَتَسَلَّطُ عَلَيْكُمْ». لكنه أراد أن يعمل شيئًا تذكاريًا يخلد به هذا الانتصار، فطلب منهم أقراط الغنيمة فأعطوه، فصنع منها أفودًا كهنوتية وجعلها في بيته في عفرة، حيث ظهر له ملاك الرب. فكانت له ولبيته شَرَكًا، حيث تحولت إلى وثن وزنى الشعب وراءها. فلنحذر من تعظيم ذواتنا والحديث عن نجاحنا وخدمتنا وإنجازاتنا. إن موسى عمل الحية النحاسية، وكانت سبب شفاء وحياة للشعب، لكن الشعب عبدها بعد ذلك، وهذا الميل الرديء موجود في الطبيعة البشرية.
أخيرًا كان لجدعون نساء كثيرات، وهذا عكس الحالة التي بدأ بها هو ورجاله الحرب عند “عين حرود”، حيث قنعوا بالقليل من المسرات المشروعة (ص٧). أما الآن فأطلق العنان لشهواته. وكان له ٧٠ ولدًا خارجين من صُلبه. وسريته ولدت له ابنًا فدعاه “أبيمالك” أي (أبي ملك). هذا ما رفضه في البداءة لكنه قبله بعد ذلك بشكل غير مباشر.