سفر التكوين أصحاح ٣٦ يتوسطه تعليق خاص بواحد هو “عَنَى بن صِبْعُون” «الَّذِي وَجَدَ الْحَمَائِمَ فِي الْبَرِّيَّةِ إِذْ كَانَ يَرْعَى حَمِيرَ صِبْعُونَ أَبِيهِ» (ع٢٤). ويُمكننا أن نرى في “عَنَى” هذا، صورة ورمز للجسد في مشيئاته وأفكاره ورغائبه وشهواته واهتماماته التي هي عداوة لله. والمقصود بالجسد هو الطبيعة الفاسدة الشهوانية الساقطة الموروثة من آدم، ذات الميول والشهوات الشريرة، والتي لا يصدر منها سوى الفساد وكل شيء رديء.
أولاً: كان “عَنَى بن صِبْعُون” من بني سَعِيرَ الْحُورِيِّ «سُكَّانُ الأَرْضِ» (ع٢٠): و«سُكَّانُ الأَرْضِ» أو «السَّاكِنِينَ عَلَى الأَرْضِ» وصف أدبي يرد كثيرًا في سفر الرؤيا (رؤيا٣: ١٠؛ ٦: ١٠؛ ٨: ١٣... إلخ)، ولا يُقصَّد به الموجودون على الأرض فقط، بل الذين هم أرضيون في ميولهم، الرافضون للدعوة السماوية، الذين آثروا الأرض على السماء فاستقرت فيها أفكارهم وعواطفهم وآمالهم.
هؤلاء ليس لهم مشغولية بالسماء، ولا رجاء لهم بالنسبة للمستقبل، يعيشون لأجل هذا العالم، والأهم في الحياة في نظرهم هو ما يخص الجسد: الطعام والثياب، الملذات والشهوات الجسدية، تعظم المعيشة والرفاهية، أما المسائل الأبدية والأمور السماوية فلا تعنيهم في شيء «بَاطِنُهُمْ أَنَّ بُيُوتَهُمْ إِلَى الأَبَدِ... يُنَادُونَ بِأَسْمَائِهِمْ فِي الأَرَاضِي» (مزمور٤٩: ١١).
وهؤلاء يصفهم الرسول بولس بالقول: «إِلَهُهُمْ بَطْنُهُمْ وَمَجْدُهُمْ فِي خِزْيِهِمِ، الَّذِينَ يَفْتَكِرُونَ فِي الأَرْضِيَّاتِ»، وهؤلاء لا بد وأن يحصدون مرارة اختيارهم “فنِهَايَتُهُمُ الْهَلاَكُ” (فيلبي٣: ١٩)، لأنه «وَيْلٌ وَيْلٌ وَيْلٌ لِلسَّاكِنِينَ عَلَى الأَرْضِ» (رؤيا٨: ١٣).
وكل هذا بالمباينة مع المؤمنين الحقيقين، المواطنين السماويين، الغرباء والنزلاء على الأرض (عبرانيين١١: ١٣؛ ١بطرس٢: ١١)، الذين سيرتهم هي «فِي السَّمَاوَاتِ» (فيلبي٣: ٢٠)، والذين يهتمون بما فوق لا بما على الأرض (كولوسي٣: ٢)، الذين ليست لهم هنا مدينة باقية لكنهم يطلبون العتيدة (عبرانيين١٣: ١٤).
ثانيًا: كان يَرْعَى حَمِيرَ صِبْعُونَ أَبِيهِ: ويا لها من مفارقة عجيبة مع داود، الرجل الذي حسب قلب الرب، والذي كانت موكولة إليه رعاية الخراف والحملان (مزمور٧٨: ٧٠-٧٢). فالحمير، رمز للجسد المُشاغِب العنيد الغبي، لأن الرجل الفارغ يتمنى أن يكون حكيمًا ولو أنه «عَدِيمُ الْفَهْمِ، وَكَجَحْشِ الْفَرَا يُولَدُ الإِنْسَانُ» (أيوب١١: ١٢)، أما الغنم والحملان فهما على الضد من ذلك، يُشبَّه بها شعب الله الحقيقي (يوحنا٢١: ١٥-١٧).
فعَنَى – كشاول بن قيس – الذي أول ما يطالعنا نجده يبحث عن الأتن (١صموئيل٩)، وكلاهما يُمثل الجسد بصورة عجيبة، ويُمثل الإنسان في الجسد الذي لا يعرف الله ولا يعني بأمور الله (رومية٨: ٥ ٨).
وإذا كان الإنسان الطبيعي لا يطلب الله ولا يهتم به، ففي أي شيء يصرف عمره؟ يُجيبنا الوحي: «أَمَّا الرَّجُلُ فَفَارِغٌ» (أيوب١١: ١٢). ويا له من وصف دقيق! ويا لخواء القلب والذهن البشريين! جلسات الإنسان فارغة، واهتماماته فارغة، قلبه فارغ، وكلامه فارغ. نعم، الإنسان الطبيعي لا شيء فيه سوى الشر والفساد، تمامًا كحالة الأرض قبل تجديدها «خَرِبَةً وَخَالِيَةً» (تكوين١: ٢).
وليس هذا حال بعض الناس، بل “جميع الْبَشَرِ” (مزمور١٤: ١ ٣؛ رومية٣: ١٠-١٢)، وليس في وقت معين من حياتهم بل من مولدهم (أيوب١١: ١٢)! وبدل من أن يرفع الإنسان عينيه نحو السماء، فإنه كالجحش ينظر إلى أسفل مُعطيًا لله «الْقَفَا لاَ الْوَجْهَ» (إرميا٢: ٢٧).
ثالثًا: وكان عَنَى هو ابن صِبْعُون... والاسم “صِبْعُون” معناه “ضَبع”: والضَبع نوع من الوحوش المفترسة، يسكن الكهوف والمقابر، وأحيانًا يبيت في البرية دون مأوى. يتغذى على الجيف، ويدمن نبش القبور لأكل جثث الموتى، ورائحة جسمه كريهة جدًّا. وهو، رغم قوته، جبان الطبع، لا يُبادر بالهجوم عادة، ولكنه إذا هاج فهو شرس جدًّا.
والضباع حيوانات ليلية قلّما تُرى نهارًا. وهي حيوانات نجسة مكروهة عند سكان المناطق التي تعيش فيها، فعواءها أشبه بالعويل وغير مُستحَب، وإذا تعذر عليها العثور على الجيف فإنها تفترس الأغنام أو الماعز والحيوانات الأليفة، وعضتها شديدة جدًّا حتى أنها تُكسّر عظام الثور بسهولة لتستخرج نخاعها.
في الكتاب المقدس، وتُستخدَّم كلمة «نَاقَة ضَبِعَة» (إرميا٢: ٢٣) في وصف الشعب القديم في ذهابه وراء البعليم، “فالنَاقَة الضَبِعَة” هي التي تطلب إشباع شهوتها المتقدة، والاسم منها “الضَبع” وهو “اشتداد الشهوة” (إرميا٢: ٢٣-٢٥؛ ١٢: ٩).
وآه كم من رجل ضيَّع عمره وأتلف حواسه في إشباع لذائذ وضيعة، مُقدّمًا كرامته وعقله، بل وأبديته، قربانًا رخيصًا على مذبح الدنايا. وكم من امرأة أو فتاة ما عادت تفرق شيئًا عن الحيوانات، وهي تلهث وراء سراب الخديعة. والله ينظر إلى هؤلاء جميعًا نظرة الشفقة والرثاء، ويقول لهم ما قاله قديمًا: «اِحْفَظِي رِجْلَكِ مِنَ الْحَفَا وَحَلْقَكِ مِنَ الظَّمَإِ» (إرميا٢: ٢٥). وهل في البُعد عن الرب شيء سوى ذُل الأسر وعبودية العبيد (المُشار إليها هنا بالحَفَا)، ثم الحلق الظامئ والشهوة غير المُتممة في الزمان وفي الأبدية أيضًا!!
رابعًا: «وَجَدَ الْحَمَائِمَ فِي الْبَرِّيَّةِ»: لكم كان يحتاج “عَنَى بن صِبْعُون” وهو في البرية إلى مياه باردة لنفسه العطشانة (أمثال٢٥: ٢٥)، ولكم كان يحتاج إلى ثلج لبنان، وإلى المياه المتفجرة الباردة الجارية (إرميا١٨: ١٤)، ولكم كان يحتاج إلى جو إيليم المُنعش (خروج١٥: ٢٧)، ولكم كان يحتاج إلى سواقي ماء في المكان اليابس (إشعياء٣٢: ٢).
ولكن “عَنَى بن صِبْعُون” لم يحصد من وراء كَّده واجتهاده في رعاية حمير صِبْعُون أبيه سوى التعب والعناء والألم والأنين المُرّ، كمعنى اسمه (عَنَى معناه عناء أو ألم). فهو قد «وَجَدَ الْحَمَائِمَ فِي الْبَرِّيَّةِ». والْحَمَائِم هي آبار المياه الساخنة(The Warm Springs) . ومهما شرب الإنسان من هذه الحمائم فإن عطشه يبقى كما هو. وبالمثل أيضًا قد يُغرِق الرجال والنساء أنفسهم في الملذات والمسرات العالمية، ومع ذلك يبقى عطشهم كما هو. وقد يحيطون أنفسهم بالرفاهية والثروة وكل ما يُريح الجسد، ومع ذلك لا يرتوون «إِنَّهُمْ يَزْرَعُونَ الرِّيحَ وَيَحْصُدُونَ الزَّوْبَعَةَ» (هوشع٨: ٧).
وعبثًا تحاول أن تُشبع النفس بالمسرات العالمية أو الأمور الأرضية أو الشهوات الجسدية، فإن شبعها وراحتها في الرب نفسه. ويا له من خطإٍ واضح وجهل فاضح، أن يُترَّك الينبوع الذي يفيض مجانًا، وبوفرة وغزارة ليروي العطشان، وتُحفَّر الآبار المُشَقَّقَة التي فيها الخيبة والفشل واليأس (إرميا٢: ١٢، ١٣)! وبالرغم من كل الأشياء الكثيرة والمُلذة والجذابة في هذا العالم، فهو لا يزيد عن كونه برية، وبمقدار ما تجذبك الأشياء المُسِّرة والخلابة التي في العالم، بهذا المقدار عينه يتسرب الجفاف إلى نفسك، والبرودة من نحو الله إلى قلبك (جامعة٢: ١-١١).
أيها المسكين الظامئ المُحتاج إلى المسيح، يا مَنْ أُنهكت قواك في حفر الآبار، إن ينبوع محبة الله يفيض بغزارة، فاقبِل إلى الرب يسوع قبل فوات الأوان. اقبِل إلى ذاك الذي يستطيع أن يُروي النفس ريًا كاملاً وإلى الأبد. اسمع الفادي ينادي: «إِنْ عَطِشَ أَحَدٌ فَلْيُقْبِلْ إِلَيَّ وَيَشْرَبْ. مَنْ آمَنَ بِي كَمَا قَالَ الْكِتَابُ تَجْرِي مِنْ بَطْنِهِ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ» (يوحنا٧: ٣٧، ٣٨).