مريم فتاة يهودية، من قرية بيت عنيا، أخت مرثا ولعازر، وتأملنا في المرة السابقة في مشاهدتها قيامة لعازر، ثم صنعها عشاءً للرب، والآن نستكمل الدراسة:
مريم سكبت الطيب على رأس الرب وجسده
عندما كان الرب متكأً في بيت عنيا – بعد أن صنعوا له هناك عشاءً - تقدَّمت مريم أخت لعازر، ومعها قارورة طيب (عطر) ناردين خالص، كثير الثمن. فكسرت القارورة، ثم سكبت الطيب على رأسه، فانساب على جسده الكريم (متى٢٦: ٧، ١٠؛ مرقس١٤: ٣)، ثم أخذت ما تبقّى منه ودهنت قدميه ومسحتهما بشعر رأسها، «فَامْتَلأَ الْبَيْتُ مِنْ رَائِحَةِ الطِّيبِ» (يوحنا١٢: ٣).
أدركت مريم من جلساتها الكثيرة عند قدمي الرب، أنه ذاهب إلى الصليب لكي يموت، وشعرت بشدة عداء اليهود ورؤساء الكهنة له، ولا سيما بعد أن أقام لعازر من الأموات. فرأت أن هذه هي الفرصة المناسبة لإكرام سيدها الذي أحبته. يا ليتنا نتعلم منها أن نُكرم الرب في كل فرصة تُتاح لنا، قبل أن تضيع، فطيبُ المريمات فاته الأوان.
كانت العادة أن يُقدَّم للضيف ماء ليغسل رجليه، ومنشفة ليمسحهما، وزيت ليدهن رأسه (لوقا٧: ٤٤، ٤٦)، لكنها تقدَّمت وعملت شيئًا عظيمًا غير المعتاد، إذ سكبت الطيب على رأسه وجسده، ودهنت قدميه ومسحتهما بشعرها. وبالرغم من وجود المتكئين، لكنها لم تبالِ برأيهم أو كلامهم، لأن هدفها فقط هو إكرام الرب.
نوعية الطيب: “ناردين” وهو نبات له رائحة عطرية جميلة، ينمو في جبال الهمالايا وبصفة خاصة في الهند، يُستخرج منه نوع من العطور. كان يتم تصديره إلى دول الشرق، ويستخدمه الملوك والعظماء. وذُكر في سفر نشيد الأنشاد في كلام العروس «مَا دَامَ الْمَلِكُ فِي مَجْلِسِهِ أَفَاحَ نَارِدِينِي رَائِحَتَهُ» (نشيد١: ١٢؛ وأيضًا ٤: ١٣، ١٤).
خالص: كان الناردين كثير الثمن، لذلك كان البعض يغشّه أو يُقلّده. لكن يذكر الروح القدس هنا أنه “خالص” أي نقي بدون أي إضافات. وينبغي أن يكون سجودنا للرب خالص بدون رائحة الجسد أو الذات، ويكون نتيجة تفكيرنا في الرب وحده بعمل الروح القدس في نفوسنا.
كميته: “منا” وهو معيار قديم كان يٌكال به (يعادل ثلث لتر)، أو يوزن به (رطل أي حوالي نصف كيلو جرام).
كثير الثمن: كان الطيب غالي الثمن تم تقديره «بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثِمِئَةِ دِينَارٍ» (مرقس١٤: ٥). وإذا كان الدينار أجرة عامل في اليوم الواحد (متى٢٠: ٢)، فبالتالي يكون ثمنه هو أجرة عامل لمدة سنة كاملة. تخيَّل معي لو قدَّمت دخلك المالي لمدة سنة كاملة للرب، فكم من السنين تدخِّر لتفعل مثل ما فعلته مريم؟ لقد كانت محبة مريم للرب كبيرة، وتقديرها له كان عظيمًا.
هل نقدِّم للرب الرخيص أم الغالي؟ لقد قدَّم نفسه لأجلنا مبذولاً على الصليب، فعلينا أن نقدِّم له أجسادنا ذبيحة حيّة مقدَّسة مرضية عند الله (رومية١٢: ١)، ونقدم أوقاتنا وطاقاتنا وأموالنا له لأنه يستحق.
كثيرون قدّموا للرب، فعلى سبيل المثال: قدَّم إبراهيم ابنه إسحاق على المذبح (تكوين٢٢)، وقدَّمت حنة ابنها صموئيل للرب (١صموئيل١: ٢٤، ٢٨)، وقدَّم المجوس للرب «هَدَايَا: ذَهَبًا وَلُبَانًا وَمُرًّا» (متى٢: ١١)، وقدَّم أهل فيلبي تقدمة مالية سخية للرسول بولس مع أنهم كانوا فقراء، وذلك لأنهم «أَعْطَوْا أَنْفُسَهُمْ أَوَّلاً لِلرَّبِّ» (٢كورنثوس٨: ٢–٥).
كسرت القارورة: كانت القارورة تُصنَع من وعاء زجاجي شفّاف، له عنق ضيِّق، يوضع به الطيب ثم يُغلق بإحكام بوضع سدادة على فوهته حتى لا يتطاير. وفي المعتاد كانت أي فتاة تستخدم جزء قليل من هذا الطيب ثم تُغلق القارورة، وبعض الفتيات كن يدخرن من أموالهن لشراء هذا الطيب ويحتفظن به ليوم الزفاف. لكن مريم، في حبِّها الشديد للرب، قدَّمت أغلى ما لديها؛ فكسرت القارورة لكي تسكبها كلها على الرب، ولا تبقي لنفسها شيئًا، وأيضًا حتى لا تُغيِّر رأيها، أو تتأثر بآراء الآخرين.
هل نحتفظ بأشياء لأنفسنا ونغلق عليها؟ ما أروع أن نقدِّم كل ما لنا للرب دون تردّد.
قارورة الطيب تمثِّل حياتنا التي ينبغي أن نقدِّمها للرب، قال بولس: «وَلكِنَّنِي لَسْتُ أَحْتَسِبُ لِشَيْءٍ، وَلاَ نَفْسِي ثَمِينَةٌ عِنْدِي، حَتَّى أُتَمِّمَ بِفَرَحٍ سَعْيِي وَالْخِدْمَةَ الَّتِي أَخَذْتُهَا مِنَ الرَّبِّ يَسُوعَ، لأَشْهَدَ بِبِشَارَةِ نِعْمَةِ اللهِ» (أعمال٢٠: ٢٤).
وضعت مريم الطيب على الرب في ثلاثة مواضع:
١- سكبته على رأسه (متى٢٦: ٧؛ مرقس١٤: ٣): وذلك لأنه الملك الذي يستحق الإكرام والتتويج، الاحترام والتقدير.
٢- سكبته على جسده: وذلك من أجل تكفينه، وهذا ما قاله الرب: «فَإِنَّهَا إِذْ سَكَبَتْ هذَا الطِّيبَ عَلَى جَسَدِي إِنَّمَا فَعَلَتْ ذلِكَ لأَجْلِ تَكْفِينِي» (متى٢٦: ١٢).
٣- دهنت قدميه: وذُكِرَت في إنجيل يوحنا الذي يتكلم عن لاهوت المسيح، وذلك لأنه ابن الله الذي يستحق السجود والعبادة. كثيرون سجدوا للمسيح أثناء حياته على الأرض، مثل: المجوس (متى٢: ١١)، التلاميذ (متى١٤: ٣٣)، الأبرص (متى٨: ٢)، يايرس (متى٩: ١٨)، المرأة الكنعانية (متى١٥: ٢٥)، أم ابني زبدي (متى٢٠: ٢٠)، الأعمى الذي أبصر (يوحنا٩: ٣٨). وقريبًا جدًا سيتحقق القول المبارك: «لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللهِ الآبِ» (فيلبي٢: ١٠، ١١).
عندما انحنت مريم ودهنت قدميه بالطيب، كان إعلانًا عن سجودها، وأيضًا أنها تريد أن تتمسك بخطواته، لأن الأرجل تتكلم عن السلوك، كما هو مكتوب: «تَارِكًا لَنَا مِثَالاً لِكَيْ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِهِ. الَّذِي لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً، وَلاَ وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ، الَّذِي إِذْ شُتِمَ لَمْ يَكُنْ يَشْتِمُ عِوَضًا، وَإِذْ تَأَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُهَدِّدُ بَلْ كَانَ يُسَلِّمُ لِمَنْ يَقْضِي بِعَدْل» (١بطرس٢: ٢١–٢٣)، وأيضًا «يَنْبَغِي أَنَّهُ كَمَا سَلَكَ ذَاكَ هكَذَا يَسْلُكُ هُوَ أَيْضًا» (١يوحنا٢: ٦).
عندما سكبت مريم الطيب على الرب «امْتَلأَ الْبَيْتُ مِنْ رَائِحَةِ الطِّيبِ» (يوحنا١٢: ٣)، وجميع الحاضرين في هذا المحفل اشتموا هذه الرائحة العطرية الجميلة، فكانت سبب إنعاش لنفوسهم. وهكذا عندما نسجد عند قدمي المسيح، يفيض القلب بكلام صالح عنه، ويتعطَّر المكان كله باسمه وصفاته، فيسبِّب الفرح والسرور لجميع المؤمنين.
يا ليتنا نتعلم السجود الحقيقي للرب، وتكون قلوبنا وأفكارنا منشغله به فقط.