ما زلنا أمام المعلِّم العظيم، نتابع – بعَجَبٍ وإعجاب - بياناته ودروسه العملية التي أظهرها في حياته، لنعلم من خلالها أن المسيحية ليست ديانة تحوي طقوسًا وفرائضَ، بل حياة تَظهر في ما نقوم به، لا ما نقوله. تناولنا في الأعداد السابقة بعض البيانات العملية التي رأينا فيها صفات الرب يسوع الشخصية، كالتواضع والطاعة والوداعة. وأيضا بيانات أظهرت لنا علاقته بالآخرين كالمحبة وغسل الأرجل. وفي هذا العدد سنرى بيانًا عمليًا آخر من المعلم وهو:
الغفران والمسامحة
«مُحْتَمِلِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَمُسَامِحِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا إِنْ كَانَ لأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ شَكْوَى. كَمَا غَفَرَ لَكُمُ الْمَسِيحُ هكَذَا أَنْتُمْ أَيْضًا» (كولوسي٣: ١٣). «وَكُونُوا لُطَفَاءَ بَعْضُكُمْ نَحْوَ بَعْضٍ، شَفُوقِينَ مُتَسَامِحِينَ كَمَا سَامَحَكُمُ اللهُ أَيْضًا فِي الْمَسِيحِ» (أفسس٤: ٣٢).
كما غفر لكم.. كما سامحكم. هذا هو البيان العملي الذي قدَّمه الرب يسوع المسيح في حياته، وما زال يقدِّمه في زمن النعمة لكل خاطئ أثيم. بيان مطالبون - كمؤمنين - أن نظهره في حياتنا كتابعين لهذا المعلّم. لكن دعونا نقف أولاً أمام معنى الغفران وكُلفته، وكَمِّ الخطايا التي يشملها هذا الغفران.
معنى الغفران: يعني التغطية والستر. ويعني أيضًا الرفع والإبعاد. والصفح والمسامحة.
وغفران الله للإنسان يرتبط بالحنان والرحمة. فجاء في سفر نحميا «وَأَنْتَ إِلهٌ غَفُورٌ وَحَنَّانٌ وَرَحِيمٌ، طَوِيلُ الرُّوحِ وَكَثِيرُ الرَّحْمَةِ، فَلَمْ تَتْرُكْهُمْ» (نحميا٩: ١٧). وقال عنه دانيآل «لِلرَّبِّ إِلهِنَا الْمَرَاحِمُ وَالْمَغْفِرَةُ» (دانيآل٩: ٩).
كلفة الغفران: «وَبِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لاَ تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ» (عبرانيين٩: ٢٢). «الَّذِي لَنَا فِيهِ الْفِدَاءُ، بِدَمِهِ غُفْرَانُ الْخَطَايَا» (كولوسي١: ١٤). فغفران خطايانا كلَّف المسيح دمه.
عدد ونوع الخطايا التي شملها غفران المسيح لنا: «وَإِذْ كُنْتُمْ أَمْوَاتًا فِي الْخَطَايَا وَغَلَفِ جَسَدِكُمْ، أَحْيَاكُمْ مَعَهُ، مُسَامِحًا لَكُمْ بِجَمِيعِ الْخَطَايَا» (كولوسي٢: ١٣). «أكْتُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الأَوْلاَدُ، لأَنَّهُ قَدْ غُفِرَتْ لَكُمُ الْخَطَايَا مِنْ أَجْلِ اسْمِهِ» (١يوحنا٢: ١٢). فالخطايا مهما كان عددها ونوعها قد غفرها المسيح لكل مؤمن به.
علاقة الرب الغافر بخطايا المغفور له
١- الرب أبعد الخطية عن صاحبها كبُعد المشرق عن المغرب (ومن يقيس هذا البعد؟!) «لَمْ يَصْنَعْ مَعَنَا حَسَبَ خَطَايَانَا، وَلَمْ يُجَازِنَا حَسَبَ آثامِنَا... كَبُعْدِ الْمَشْرِقِ مِنَ الْمَغْرِبِ أَبْعَدَ عَنَّا مَعَاصِيَنَا» (مزمور١٠٣: ١٠–١٢).
٢- الرب محاها، كما تُمحى السحابة والغيمة التي تحجب ضوء الشمس وأشعتها من الوصول للأرض. وبفعل دم المسيح صار لا وجود لها «قَدْ مَحَوْتُ كَغَيْمٍ ذُنُوبَكَ وَكَسَحَابَةٍ خَطَايَاكَ» (إشعياء٤٤: ٢٢).
٣– الرب لا يذكرها، أي لا يواجهنا ويذكِّرنا بها «أَنَا أَنَا هُوَ الْمَاحِي ذُنُوبَكَ لأَجْلِ نَفْسِي» (إشعياء٤٣: ٢٥). ويقول الرب أيضًا «وَلَنْ أَذْكُرَ خَطَايَاهُمْ وَتَعَدِّيَاتِهِمْ فِي مَا بَعْدُ» (عبرانيين ١٠: ١٧)، وهذا يجعلنا في سلام مع الله.
٤- الرب لا يراها فينا أو علينا، لأننا صرنا في المسيح، وهذا ما نفهمه من قول حزقيا ملك يهوذا «فَإِنَّكَ طَرَحْتَ وَرَاءَ ظَهْرِكَ كُلَّ خَطَايَايَ» (إشعياء٣٨: ١٧).
٥- الرب وضعها في مكان لا يمكن لأحد، حتى الشيطان، أن يصل إليها ويجدها. وضعها ليس في عُمق بل أعماق، وليس في نهر يمكن أن يجف بل في بحر «يَعُودُ يَرْحَمُنَا، يَدُوسُ آثَامَنَا، وَتُطْرَحُ فِي أَعْمَاقِ الْبَحْرِ جَمِيعُ خَطَايَاهُمْ» (ميخا٧: ١٩).
نتائج الغفران
١– ليس فقط إزالة العقاب، بل هو يعيد العلاقة والشركة مع الله.
٢– يجلب السعادة للمغفور له «طُوبَى لِلَّذِي غُفِرَ إِثْمُهُ وَسُتِرَتْ خَطِيَّتُهُ» (مزمور٣٢: ١).
٣– ينشئ المحبة، وهذا ما قاله الرب عن المرأة التي كانت خاطئة «قَدْ غُفِرَتْ خَطَايَاهَا الْكَثِيرَةُ، لأَنَّهَا أَحَبَّتْ كَثِيرًا» (لوقا٧: ٤٧).
عزيزي القارئ: لم أقصد عمل بحث عن الغفران، بل قصدت إظهار جزء من البيان العملي الذي قام به الرب يسوع المسيح أمام خطايانا وآثامنا الكثيرة. والآن، ماذا نحن فاعلون مع الآخرين أمام هذا المقياس الكامل والمثال العظيم؟
في طبيعة الإنسان حب الانتقام (تكوين ٤: ٢٤)؛ أمّا المسيح فلم يأتِ لينتقم لنفسه، بل وهو في قمة آلامه على الصليب طلب الغفران لصالبيه وقاتليه.
ولقد علَّمنا كيف، وإلى أي مدى، نسامح، في مَثَلِ المديونين الذي قاله ردًا على سؤال بطرس «يَارَبُّ، كَمْ مَرَّةً يُخْطِئُ إِلَيَّ أَخِي وَأَنَا أَغْفِرُ لَهُ؟ هَلْ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ؟» (متى١٨: ٢١–٣٤). ومن الكلمات السابقة، وأيضًا هذا المثل نتعلم:
١- الغفران القلبي الفوري للأخ المخطئ. فلا مجال للتفكير إن كان يستحق الغفران والمسامحة أم لا.
٢- المسامحة: الذي سامحنا بجميع الخطايا (كولوسي٢: ١٣)، يعلِّمنا كيف نسامح الجميع على كل شيء. فالملك سامح العبد بالكثير، والعبد لم يسامح رفيقه بالقليل. والملك أطلقه حرًّا بدون دين، وهو ألقى رفيقه في السجن ولم يُعطِه فرصة لتسديد الدين.
٣- لو قارن ما له عند الغير بما سامحه به الملك لاكتشف أنه لا شيء ولا يستحق أن يقف أمامه. فالمائة دينار لا شيء أمام ما فاز به حالاً (١٠٠٠٠ وزنة يقدِّرها البعض بملايين الدينارات؛ فما وجه مقارنتها بـ١٠٠ دينار). لم ينسَ بولس في يومه أنه أول الخطاة، لذا كان مترفقًا بالجميع. وهنا ينتزع من القلب روح القسوة والانتقام والكراهية للآخر.
٤– الغفران والمسامحة لا يعنيان أني أحتمل إساءة أخي فقط. فأحيانا نحتمل لكن لا نسامح ونغفر، وعندما يتكرر خطأ أخي أتذكر له كل ما سبق لأنه لم يكن عندي مسامحة.
كما غفر لكم.. كما سامحكم.
هذا هو المقياس. وهذه هي وصية الرب.
فليتنا نطيعه ونتبع خطواته فتظهر حياته فينا.