«الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً ِللهِ. لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ» (فيلبي٢: ٦-٨).
بهذه الكلمات عبَّر الروح القدس، بقلم بولس الرسول، عن اتّضاع المسيح ابن الله. وهو أمر عجيب أنَّ الله، ساكن السماء (١ملوك٨: ٣٠)، يتضع ليصبح إنسانًا يوُلَد كالبشر في مهد، ويموت في النهاية ليُدفَن مثلهم في لحد!
لكن الأعجب أنه يقول عن نفسه بالنبوة إنه وُجد في حالة أقل من إنسان! وهل هناك أقل من الدودة؟! «أَمَّا أَنَا فَدُودَةٌ لاَ إِنْسَانٌ» (مزمور٢٢: ٦). هذه هي كلمات المسيح بالنبوة عندما وصف حالته إذ كان فوق الصليب.
“الدودة” تعبر عن الضعف (إشعياء٤١: ١٤)؛ والعجيب أن المسيح - ابن الله - كان ضعيفًا كأي إنسان، فقد تعب (يوحنا٤: ٦)، وجاع (متى٤: ٢؛ ٢١: ١٨)، وعطش (يوحنا١٩: ٢٨)، وتألَّم للدرجة التي لم يقدر أن يحمل الصليب في طريقه للجلجلثة (مرقس١٥: ٢١)، لقد أعيا من كثرة ما عانى (مزمور١٠٢).
لكنه أراد أن يأخذ قلوبنا لشيء آخر عندما قال عن نفسه “أنا دودة”، ليس فقط الاتضاع واحتمال الألم لكن أيضًا الحب والعطاء.
الكلمة “دودة” وبالعبري “تولع” تتكلم عن نوع من الديدان اسمها العلمي “إليسيس كوكس”، تموت إناثها في الوقت الذي تلد فيه يرقاتها، حيث تلصق جسدها بإحكام بجزع شجرة، وتفرخ اليرقات من البيض، وتموت الدودة الأم، وبمجرد موتها يصطبغ جسدها باللون القرمزي، ومن أجسادها المجفَّفة تُستخرج صبغة القرمز بعد ذلك، هذه الصبغة التي كانت تصبغ بها ثياب الملوك والنبلاء.
وهي صورة معبِّرة لموت المسيح. لقد قتله اليهود معلِّقين إياه على خشبه (“شجرة” بحسب الترجمة الإنجليزية) وفي هذه الصورة نراه معطيًا حياته، سافكًا دمه ومائتًا كي نملك معه.
مات معطيًا حياته
نندهش عندما نسمع من قصص عن بعض الأشخاص الذين يوصون بالتبرع ببعض، أو كل، أعضائهم حال وفاتهم لإنقاذ حياة شخص آخر محتاج إليها. وهو أمر نبيل على الرغم من أن هؤلاء الأشخاص لم يموتوا كي يعطوا أعضائهم لآخرين لكنهم أوصوا بإعطاء أعضائهم لأنهم سيموتون.
أما المسيح إذ أراد أن يعطي حياته لآخرين، بذلها كالحبة التي دُفِنَت في الأرض فأنتجت من ذات صنفها ثمرًا كثيرًا (يوحنا١٢: ٢٤).
مات سافكًا دمه
لكي يكون موت المسيح على الصليب عملاً كفّاريًا عن الخطية، وليس موتًا عاديًا لشخص بار كشهيد، كان لا بد من سفك الدم. الذي جعل قيمة للدم في معالجة أمر الخطية هو الله وليس الإنسان. جعل الله في ذبائح العهد القديم رمزًا لهذا، ووضع القانون «بدون سفك دم لا تحصل مغفرة» (عبرانيين٩: ٢٢).
وصبغة القرمز التي تنتجها هذه الدودة عند موتها هي صورة لدم المسيح. كان القرمز مكونًا أساسيًا في بناء خيمة الاجتماع (خروج٢٥ - ٤٠)، في ستائرها وفي الحجاب وثياب رئيس الكهنة ثم في الهيكل (٢أخبار٢)، صورة للدم الذي هو أساس الاقتراب إلى الله «فَإِذْ لَنَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ ثِقَةٌ بِالدُّخُولِ إِلَى الأَقْدَاسِ بِدَمِ يَسُوعَ» (عبرانيين١٠: ١٩).
وكان لا بد من وجود القرمز للتطهير من البرص (لاويين١٤)، صورة لدم المسيح الذي يطهِّر من كل خطية (١يوحنا١: ٩).
كما كان حبل القرمز هو علامة الأمان التي أعطاها الجاسوسان لراحاب وبيتها حتى لا تهلك مع عصاة مدينتها أريحا حال دخول شعب الله إليها لامتلاكها، صورة لدم المسيح وسيلة النجاة من الهلاك (خروج١٢: ١٣).
مات كي نملك معه
المسيح هو الملك وهو ملك الملوك (١تيموثاوس٦: ١٥؛ رؤيا١٧: ١٤؛ ١٩: ١٦)، وهو الذي له الحق في المُلك على الجميع باعتباره الله الخالق وابن الإنسان الكامل.
في يوم اتضاعه لم يوُلد كملك ولا عاش في قصر كالملوك، لم يجلس على عرش من ذهب أو حتى خشب؛ لأنه أخلى نفسه (فيلبي٢: ٥). انصرف إلى الجليل عندما عَلِم أن الناس مزمعين أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكًا بعد معجزة إشباع الجموع (يوحنا٦: ١٥)؛ لأنه لم يُرِد أن يكون الملك في ذلك التوقيت وبهذا الأسلوب وشعبه في هذه الحالة.
هتفوا له عند دخوله إلى أورشليم «مباركة مملكة داود أبينا» (مرقس١١: ١٠)، وبعد أيام هتفوا ضده «أصلبه اصلبه» عندما هزئوا به وقت المحاكمة «فَعَرَّوْهُ وَأَلْبَسُوهُ رِدَاءً قِرْمِزِيًّا، وَضَفَرُوا إِكْلِيلاً مِنْ شَوْكٍ وَوَضَعُوهُ عَلَى رَأْسِهِ، وَقَصَبَةً فِي يَمِينِهِ. وَكَانُوا يَجْثُونَ قُدَّامَهُ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ قَائِلِينَ: “السَّلاَمُ يَا مَلِكَ الْيَهُودِ!”»، لأن القرمز كان رداء الملوك (متى٢٧: ٢٨، ٢٩).
لم يُرِد في أيام اتضاعه مُلكًا بهذا الشكل، وهم رأوا أنه لا يستحق أكثر من خشبة يُصلَب عليها وتاج شوك على رأسه!
لكنه «يجب أن يملك» (١كورنثوس١٥: ٢٥). وهو في نعمته أعطى لأحبائه أن يملكوا معه «وَجَعَلْتَنَا لإِلهِنَا مُلُوكًا وَكَهَنَةً، فَسَنَمْلِكُ عَلَى الأَرْضِ» (رؤيا٥: ١٠).
الحب هو العطاء، وعطاء النفس لا يقاس بعطاء الأشياء، أما من وهب نفسه لمن أحب وأعطاهم كل ما له فهو الفريد شخص المسيح، ما أمجده إذ ليس نظيره في الحب والعطاء.
هل تحبه أم تحتقر محبته؟