“دِيمَاس” اسم يوناني معناه “شعبي” أو “مشهور” أو ”محبوب لدى الجمهور” (Popular). وقد ذُكِر ثلاث مرات في العهد الجديد:
ففي رسالة بولس إلى فليمون (٢٣، ٢٤) نقرأ: «يُسَلِّمُ عَلَيْكَ أَبَفْرَاسُ... وَمَرْقُسُ، وَأَرِسْتَرْخُسُ، وَدِيمَاسُ، وَلُوقَا الْعَامِلُونَ مَعِي». ويُذكَر “دِيمَاس” قبل “لُوقَا”، كما يُذكر أنه كان عاملاً مع الرسول.
وفي رسالة كولوسي (٤: ١٤) يقول: «يُسَلِّمُ عَلَيْكُمْ لُوقَا الطَّبِيبُ الْحَبِيبُ، وَدِيمَاسُ». فيُذكَر “لُوقَا” قبل “دِيمَاس”، ولا يَذكُر الرسول أيَّة كلمة مدح عن “دِيمَاس”، الأمر الذي لم يكن مِن عادة الرسول أن يفعله. وفي هذا تقرير عن تراجع حالة “دِيمَاس” وانحداره.
وفي الرسالة الثانية إلى تيموثاوس (٤: ٩-١١) يقول: «لأَنَّ دِيمَاسَ قَدْ تَرَكَنِي إِذْ أَحَبَّ الْعَالَمَ الْحَاضِرَ وَذَهَبَ إِلَى تَسَالُونِيكِي... لُوقَا وَحْدَهُ مَعِي».
فدِيمَاس بدأ عاملاً في خدمة الرب مع الرسول بولس، ولكنه التفت إلى الوراء، فترك الخدمة لأنه «أَحَبَّ الْعَالَمَ الْحَاضِرَ». ويا له مِنْ عنوان سيء للحياة المسيحية! وهكذا قد يسير البعض، ويقطعون شوطًا في طريق الخدمة والتكريس للرب، لكنهم سرعان ما تفتُر همَّتهم. لقد كانت محبة العالم قابعة في قلبه، وفي آخر المطاف اجتذبته، فترك خدمة الرب!
وليس المقصود هنا طبعًا عالم الطبيعة الجميلة، التي أودعها الله في الكون من جبال شاهقة، ووديان خصيبة، وشلالات وأنهار، وبحار ومحيطات، وخضرة وأشجار، وحيوانات وكائنات بحرية وأطيار. إن كل واحد مِنا أمامها يهتف: «أَيُّهَا الرَّبُّ سَيِّدُنَا، مَا أَمْجَدَ اسْمَكَ فِي كُلِّ الأَرْضِ!» (مزمور٨: ١، ٩).
وليس المقصود أيضًا محبة الناس الذين في العالم، فهوذا سَيِّدنا المعبود يُبيّن مبلغ محبة الله للعالم قائلاً: «لأَنَّهُ هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ» (يوحنا٣: ١٦).
ولكن العالم الذي أحبَّهُ دِيمَاسَ هو - أدبيًا - النظام الذي أسَّسه الشيطان، بعد سقوط الإنسان، ليضمن بقاء الإنسان الساقط بعيدًا عن الله، وذلك بأن يشغله بأمور قد لا تكون شرًا في ذاتها، بل وربما تكون ممدوحة؛ فقد تكون العلم أو العمل، الاختراعات أو الفنون والطرب، أو لقمة العيش (تكوين٤: ١٧-٢٤). المهم أن ينشغل الإنسان بعيدًا عن الله، فلا يُفكر في العودة إليه. وهكذا حوَّل الشيطان العالم إلى “سوبر ماركت” فيه تلبية لكل حاجات البشر من حلال وحرام، من دنيا ودين، من مباهج العالم المنظور، وأسرار العالم غير المنظور! إنه العالم الحاضر، الملموس، المنظور، الوقتي. العالم الذي يبني حياته وقصوره ويُكوِّم كنوزه في الأرض، مُجتهدًا في بحثه عن التمتع بالخطية، دون نظر إلى الأبدية، ولا إلى عالم المستقبل الأبدي! إنه العالم الذي يُنادي: “امتلك واستمتع الآن، وادفع فيما بعد.. وللأبد!”. بينما صوت الأبدية يُنادي: “ادفع الآن، وامتلك واستمتع فيما بعد.. وللأبد!”.
وما أكثر الخطر الذي يُحيط بأولئك الذين لا يعملون حسابًا للصعوبات من بداية الطريق، حتى بين المؤمنين الحقيقيين. فكثيرون مِن الذين فشلوا في جهادهم الروحي كانوا مِن الذين يُسرعون الخطى في بداية الميدان، وقد تعثرت خطواتهم شيئًا فشيئًا. فيا ليتنا نتسلَّح بنية الجهاد طول الطريق، معتمدين على قوة السَيِّد الرب، الذي يستطيع أن يحفظنا إلى النهاية.
ولا يذكر الرسول خطية خاصة اتجه إليها “دِيمَاسُ”. مِن المحتمل أنه بدأ يعمل في التجارة أو في أي عمل آخر، تاركًا الخدمة ومشقاتها، وتحديات الشيطان ومقاومته، «وَذَهَبَ إِلَى تَسَالُونِيكِي» التي كانت – في تلك الأيام – مركز تجارة لامع. ولربما كان يرغب في تحقيق معنى اسمه. ولم تكن الخدمة مع الرسول بولس، السجين الذي قارب يوم إعدامه، بطريقة مناسبة للبحث عن الشعبية والشهرة. لقد تعثرت الخطى، وأُهمِلت الصلاة والشركة مع القديسين، وانحطت الحالة الروحية. على أية حال، لقد كشف الروح القدس الدوافع الداخلية التي كانت في قلبه، ودفعته إلى ترك بولس والذهاب إلى تَسَالُونِيكِي، وهي “مَحَبَّة الْعَالَمِ”. إن محبة العالم لم تكن قد طُرحت من القلب. لم يكن الانفصال عنها واضحًا. ويا لقوة جاذبية العالم! ولكن الجاذبية الأعظم لشخص المسيح هي الترياق لمثل هذا السقوط الذي يمكن أن يحدث. فقد نكون في أفضل شركة مسيحية كديماس، ولكن ما لم تكن دوافعنا محكومة بتكريسنا وتقوانا للمسيح، فمن المحتم أننا سنسقط بطريقة أو بأخرى.
لقد كان “دِيمَاسُ” من بين القليلين الذين كان لهم امتياز الاتصال الشخصي برسول الأمم العظيم؛ بولس. وبفضيلة الأمانة كان يمكن أن يكون له سمعة تيموثاوس أو لوقا. لكنه باع مديح الرب بمشغوليات عالمية زهيدة، واستبدل صحبة بولس، أسير الرب، ببريق المادة ووهجها.
ولنا درس في فشل “دِيمَاس”. فإنه يُرينا أن الشركة - ولو كانت مع أعظم القديسين – لا تكفي لأن تحفظنا من الضلال والتيهان والتواطؤ مع العالم. فالجلوس عند قدمي أعاظم مُعلمي الكتاب، أو العضوية في إحدى الكنائس التي يقوم بالخدمة فيها أتقى الرعاة بين رجال الله؛ هذه كلها امتيازات، لكنها ليست أكثر من ذلك. إننا لا ندخل السماء عن طريق إيمان شخص آخر، ولا شهادتنا تلمع عن طريق قداسة الآخرين. إنما فقط المشغولية القلبية بالرب يسوع هي التي تحفظنا وتُخلّصنا مِن المآسي الديماسية.
أيها الأحباء: «أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّ مَحَبَّةَ الْعَالَمِ عَدَاوَةٌ للهِ؟ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مُحِبًّا لِلْعَالَمِ، فَقَدْ صَارَ عَدُّوًا للهِ» (يعقوب٤: ٤). فيا ليتنا نحرص حتى لا نقع، ولو في شيء يسير مِن محبة العالم الحاضر «لاَ تُحِبُّوا الْعَالَمَ وَلاَ الأَشْيَاءَ الَّتِي فِي الْعَالَمِ. إِنْ أَحَبَّ أَحَدٌ الْعَالَمَ فَلَيْسَتْ فِيهِ مَحَبَّةُ الآبِ. لأَنَّ كُلَّ مَا فِي الْعَالَمِ: شَهْوَةَ الْجَسَدِ، وَشَهْوَةَ الْعُيُونِ، وَتَعَظُّمَ الْمَعِيشَةِ، لَيْسَ مِنَ الآبِ بَلْ مِنَ الْعَالَمِ. وَالْعَالَمُ يَمْضِي وَشَهْوَتُهُ، وَأَمَّا الَّذِي يَصْنَعُ مَشِيئَةَ اللهِ فَيَثْبُتُ إِلَى الأَبَدِ» (١يوحنا٢: ١٥-١٧).
ولا ينبغي أن يغيب عن بالنا أن السبيل إلى غلبة العالم ليس في جهد نبذله من عندياتنا، بل في الإيمان «وَهَذِهِ هِيَ الْغَلَبَةُ الَّتِي تَغْلِبُ الْعَالَمَ: إِيمَانُنَا» (١يوحنا٥: ٤). ولكن كيف للإيمان أن يغلب العالم؟ إنه يجعل الأمور التي لا تُرى حقيقة واقعة. فالإيمان المشحون حيوية صادرة من الشركة مع الآب ومع الابن، يضع أمامنا حقيقة الأمور التي نسعى إليها. وإذ نسلك بالإيمان نحتفظ بالتقدير الصحيح للأشياء العابرة التافهة، ولقيمة الأمور الأبدية، فتخف قبضتنا على الأمور المنظورة، متحررين من سلطانها. وهكذا نُفكِّر ونهتم بما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله (كولوسي٣: ١).
وَبَعْدَ قَلِيلٍ يَنْتَهِي الْجِهَادْ | | بِمَجِيءِ الرَّبِّ وَفِدَا الأَجْسَادْ |
مِثْلَهُ نَكُونُ بِغَيْرِ فَسَادْ | | الْعَالَمُ يَمْضِي وَشَهْوَتُهُ |