لا زلنا نتأمل في أعظم معلم. الذي ليس مثله معلمًا. فهو متفرّد في تعليمه بشيئين: يُعلِّم ببيان، ويعلم بسلطان. فيعطي الدرس العملي أولاً على نفسه لا على أوانٍ في معمل. وعندما يشرحه نظريًا تكون كلماته مصحوبة بسلطان وقوة في داخلها لتنفيذها. فما أسعد التلميذ الذي يرى البيان ويسمع الكلام، ويقوم ويعيش ما تعلَّمه.
أصدقائي: تعالوا الآن لنرى البيان ونسمع الكلام. وبيان اليوم هو:
كما أرسلني.. أرسلكم
قالها الرب مرتان: الأولى للآب قبل الصليب «كَمَا أَرْسَلْتَنِي إِلَى الْعَالَمِ أَرْسَلْتُهُمْ أَنَا إِلَى الْعَالَمِ» (يوحنا١٧: ١٨)، والثانية للتلاميذ بعد الصليب «كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ أُرْسِلُكُمْ أَنَا» (يوحنا٢٠: ٢١). في الأولى بعد أن عاش حياة أعظم مُرسَل أكمل ما جاء لأجله. وفي الثانية قبل صعوده أرسل تلاميذه بعد أن ترك لهم مثالاً وزوَّدهم بما يلزمهم.
والآن لنقف أولاً أمام المُرسل العظيم قبل أن نتكلم عمن أرسلهم.
١– ميعاد الإرسالية: «وَلكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ، مَوْلُودًا تَحْتَ النَّامُوس» (غلاطية٤: ٤). فالمسيح قدَّم نفسه بروح أزلي، وانتظر ولم يتعجَّل الخروج، وعندما حان الموعد لم يتأخر.
٢– تفرُّد المُرسَل: يكلمنا الكتاب عن مرسلين كثيرين. لكن ما أبعد الفارق بينهم وبين الرب يسوع ولنذكر منهم:
أ) يوسف: أرسله أبيه يعقوب لينظر سلامة إخوته وسلامة الغنم؛ فأطاع قائلاً «هأَنَذَا». ولكنه كان يجهل ما سيفعله به إخوته. وأُظن أنه لو علم ربما رفض الإرسالية (تكوين٣٧). أما المسيح فمكتوب عنه «فَخَرَجَ يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ بِكُلِّ مَا يَأْتِي عَلَيْهِ» (يوحنا١٨: ٤).
ب) موسى: دعاه الرب ليرسله إلى فرعون ليخرج بني إسرائيل من مصر، فقدَّم خمسة اعتذارات وأدلة على عدم كفائته، أنهاها بالقول «أَرْسِلْ بِيَدِ مَنْ تُرْسِلُ» (خروج٤: ١٣). أما المسيح فخرج طائعًا مسرورًا لفعل مشيئة من أرسله.
ج) إشعياء النبي: سمع السيد الرب يقول من أرسل، فقال هأنذا أرسلني. ولكن كان يحتاج أولاً أن ينتزع إثمه ويكفَّر عن خطيته (إشعياء٦). أما المسيح فهو القدوس بلا شر ولا دنس الذي لم تكن فيه خطية.
٣- الغرض من الإرسالية: نذكر أولاً ما قاله الرب يسوع بنفسه، ثم ما كتبه الرسل بالروح.
أ) في بداية خدمته، وبعد التجربة من إبليس، قال الرب يسوع لليهود في مجمع الناصرة: «رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ ولِلْعُمْيِ بِالْبَصَرِ، وَأُرْسِلَ الْمُنْسَحِقِينَ فِي الْحُرِّيَّةِ، وَأَكْرِزَ بِسَنَةِ الرَّبِّ الْمَقْبُولَةِ» (لوقا٤: ١٨–١٩). وقد تمَّم في خدمته كل هذا.
ب) كتب بولس «فَاللهُ إِذْ أَرْسَلَ ابْنَهُ فِي شِبْهِ جَسَدِ الْخَطِيَّةِ، وَلأَجْلِ الْخَطِيَّةِ، دَانَ الْخَطِيَّةَ فِي الْجَسَدِ» (رومية٨: ٣). أي جاء في صورة إنسان ومات من أجل ما نحن عليه – دان طبيعتنا الخاطئة – وما ارتكبناه من خطايا.
ج) وكتب يوحنا ثلاثة أغراض «أَنَّ اللهَ قَدْ أَرْسَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ إِلَى الْعَالَمِ لِكَيْ نَحْيَا بِهِ.. بَلْ أَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا، وَأَرْسَلَ ابْنَهُ كَفَّارَةً لِخَطَايَانَا.. الآبَ قَدْ أَرْسَلَ الابْنَ مُخَلِّصًا لِلْعَالَمِ» (١يوحنا٤: ٩–١٤). فالإنسان ميت، ومذنب، وهالك؛ وجاء المسيح مرسلاً من الله ليُحي، ويكفِّر ويخلِّص.
المسيح كالمرسل صفاته وأهدافه: في إنجيل يوحنا نجد التركيز أكثر على المسيح باعتباره المُرسَل من الآب، ويذكر هذا أكثر من ٤٠ مرة. فيها نرى غرضه عندما قبل الارسالية من الآب وجاء إلى العالم. وإليك بعضها:
١– يتكلم ويعلم بكلام من أرسله: «لأَنَّ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللهُ يَتَكَلَّمُ بِكَلاَمِ اللهِ... الآبَ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ أَعْطَانِي وَصِيَّةً: مَاذَا أَقُولُ وَبِمَاذَا أَتَكَلَّمُ... أَجَابَهُمْ يَسُوعُ وَقَالَ: “تَعْلِيمِي لَيْسَ لِي بَلْ لِلَّذِي أَرْسَلَنِي”» (يوحنا٣: ٣٤؛ ١٢: ٤٩؛ ٧: ١٦).
٢– يعمل مشيئة الذي أرسله: «طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَهُ... لاَ أَطْلُبُ مَشِيئَتِي بَلْ مَشِيئَةَ الآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي» (يوحنا٤: ٣٤؛ ٥: ٣٠).
٣– يعمل ويكمل العمل المُرسل لأجله: يَنْبَغِي أَنْ أَعْمَلَ أَعْمَالَ الَّذِي أَرْسَلَنِي» (يوحنا٩: ٤)، «لأَنَّ الأَعْمَالَ الَّتِي أَعْطَانِي الآبُ لأُكَمِّلَهَا، هِيَ تَشْهَدُ لِي أَنَّ الآبَ قَدْ أَرْسَلَنِي» (يوحنا٥: ٣٦). فلم يكتفِ أبدًا أن يبدأ عمل أو يقطع فيه شوطًا ثم يتركه لأي سبب بل أكمل كل شيء. وقد ختم خدمته مخاطبًا من أرسله بالقول «الْعَمَلَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي لأَعْمَلَ قَدْ أَكْمَلْتُهُ» (يوحنا١٧: ٤).
٤– لم يأتِ من نفسه «لأَنِّي خَرَجْتُ مِنْ قِبَلِ اللهِ وَأَتَيْتُ. لأَنِّي لَمْ آتِ مِنْ نَفْسِي، بَلْ ذَاكَ أَرْسَلَنِي» (يوحنا٨: ٤٢).
٥– يطلب مجد الذي أرسله «مَنْ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ يَطْلُبُ مَجْدَ نَفْسِهِ، وَأَمَّا مَنْ يَطْلُبُ مَجْدَ الَّذِي أَرْسَلَهُ فَهُوَ صَادِقٌ» (يوحنا٧: ١٨). أخبره مرة تلاميذه أن الجموع تطلبه وتوقَّعوا أنه سيذهب لهم فورًا. لكن إرادة الله الذي أرسله تتغلب على طلب الجموع ونصيحة التلاميذ فقال «لأَنِّي لِهذَا خَرَجْتُ» (مرقس١: ٣٥–٣٩٩).
٦– صورة معبِّرة لمن أرسله: «وَالَّذِي يَرَانِي يَرَى الَّذِي أَرْسَلَنِي» (يوحنا١٢: ٤٥).
٧– علاقته بالروح القدس: كان الروح مصدر قوة كرازة وخدمة وإرسالية الرب يسوع (اقرأ لوقا٤: ١، ١٨، ١٩).
هذا هو أعظم مرسل. الذي نزل من السماء لهدف واحد، وهو عمل مشيئة الذي أرسله. فلم تكن له أجندة شخصية أو أهداف خاصة. لذا بعد كل عمل لم يلاحظ عليه أحد علامات التعب والإعياء. بل الشبع والفرح والانتعاش.
هذا شيء قليل عن المسيح وقوله «كَمَا أَرْسَلْتَنِي». فماذا عن المرسَلين منه وقوله لهم «أُرْسِلُكُمْ أَنَا»؟ ألقاكم في العدد القادم بمشيئة الرب.