س: هل الزواج اختراع اجتماعي فاشل؟
المتهم البريء
الزواج هو صاحب أكبر صحيفة سوابق، وهو أكثر متهم تصدُر في حقِّه الأحكام وتوجَّه إليه الاتهامات، فيقف فيها وحيدًا دون محامٍ أو مدافع. فالناس تنسب للزواج أنه سبب الأزمات المادية والمشاكل الأسرية، والحكومات تقول إنه سبب ارتفاع نسبة العنف والجرائم، وحتى منظمات المجتمع المدني تتهم الزواج الفاشل أنه سبب التشرد والضياع وزيادة نسبة أطفال الشوارع.
وللأسف فقد ساهم الكثير من الكتاب والفلاسفة عبر التاريخ، في تعميق هذه التهم للزواج، وذلك بالصورة السلبية التي قدَّموها عنه، فنال من نقدهم وسخريتهم الكثير. فمثلاً قال سقراط: “بكل الأحوال تزوج؛ لو حصلت على زوجة جيدة ستكون سعيدًا، ولو حصلت على زوجة سيئة ستصبح فيلسوفًا”. وقال فولتير: “الزواج هو المغامرة الوحيدة المفتوحة للجبناء (جمع جبان)”. وقال أيضًا شكسبير: “الحياة في نظر الطفلة بكاء، وفي نظر الفتاة اعتناء بالمظهر، وفي نظر الزوجة تجربة قاسية”.
أما الكتاب والشعراء العرب فقد أفاضوا في تشويه الزواج، بقصد أو بدون، مستندين على الثقافة الموجودة أصلاً، من احتقار للمرأة وازدراء لدورها. فمثلاً قال أنيس منصور: “كنت أخاف من الموت، حتى أماتني الزواج فلم أعد أخاف أحدًا أو شيئًا”.
المجتمع السائد
والحقيقة أن السبب الرئيسي – من وجهة نظري - لكل هذه التهم الكاذبة شكلاً وموضوعًا عن الزواج، هو ما ورد في السؤال الموجود في صدر هذا المقال. فعندما اعتبر البشر أن الزواج هو اختراعًا اجتماعيًا، فقد أسقطوا عليه كل عيوبهم، واعتبروه نظامًا فاشلاً مثلهم، بل وشكَّلوا الزواج نفسه على حسب ثقافة مجتمعهم.
ففي مجتمعاتنا الشرقية، بدأ كثير من الشباب ينظرون للزواج على أنه نظام عتيق عفا عنه الزمن، وأنه قيد مشروط بدافع الكبت الموجود، ولهذا فقد استبعدوا الزواج من فكرهم وتخطيطهم، وانطلقوا في العمل والسفر والمتعة، بعيدًا عن قيود الزواج المزعومة، بل واعتبروه أنه سجن، أو فخ، أو نصيب، أو قضاء وقدر.
أما في المجتمعات الغربية، ففضّلوا العلاقات الخاصة بين الشباب والشابات دون أي مسؤولية أو التزام، وسمحوا بالزواج أكثر بين المثليين!! على اعتبار أنهم يؤمنون بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ويرون أن الزواج هو فقط نتاج للحب المنتصر والمجتمع المتحرر.
المؤسس المُستبعَد
ولأن ما بُنيَ على باطل فهو باطل، ففي رأيي أن كل الضلال الفكري السابق ذكره، ناتج من النسيان (الجاهل أو المتعمَّد) لحقيقة راسخة؛ وهي أن الله - وليس المجتمع - هو المؤسس الحقيقي للزواج.
وهذا ما نعرفه من قراءة الصفحات الأولى من سفر التكوين؛ وهو سفر التأسيس والبدايات. فبعد أن أكمل الله القدير عمله البديع في الخليقة، وبعد أن توجَّه بخلق الإنسان حبيبه «وَقَالَ الرَّبُّ الإِلهُ: لَيْسَ جَيِّدًا أَنْ يَكُونَ آدَمُ وَحْدَهُ، فَأَصْنَعَ لَهُ مُعِينًا نَظِيرَهُ» (تكوين٢: ١٨). فالله هو الذي شعر أولاً باحتياج آدم، وهو الذي رتَّب وسيلة تسديد هذا الاحتياج، وآدم نفسه لم يشعر بعد، والمجتمع لم يكن موجودًا وقتها.
ولهذا فقد قام الله بأمر عجيب، عندما استدعى كل الحيوانات والطيور إلى آدم ليدعوها بأسماء، رغم أن الله كان قادرًا على القيام بهذه المهمة البسيطة بكفاءة أعلى بكثير من آدم، ولكن الله الحكيم كان يريد أن يُشعر آدم باحتياجه للأليف والمعين، فنقرأ «فَدَعَا آدَمُ بِأَسْمَاءٍ جَمِيعَ الْبَهَائِمِ وَطُيُورَ السَّمَاءِ وَجَمِيعَ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ. وَأَمَّا لِنَفْسِهِ فَلَمْ يَجِدْ مُعِينًا نَظِيرَهُ» (تكوين٢: ٢٠). وهذا يفند الادعاء القائل أن الزواج يعطل العلاقة مع الله.
وبالطبع لم يأخذ الله رأي آدم في حل هذه المشكلة، ولا حتى في مواصفات الزوجة التي يريدها، ولكن اختار له الله أفضل الأفضل، فنقرأ «وأَوْقَعَ الرَّبُّ الإِلهُ سُبَاتًا عَلَى آدَمَ فَنَامَ، فَأَخَذَ وَاحِدَةً مِنْ أَضْلاَعِهِ وَمَلأَ مَكَانَهَا لَحْمًا. وَبَنَى الرَّبُّ الإِلهُ الضِّلْعَ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ آدَمَ امْرَأَةً وَأَحْضَرَهَا إِلَى آدَمَ» (تكوين٢: ١٨-٢٢). فقد قام الله بالأفعال الخمسة الذهبية للزواج؛ أوقع وأخذ وملأ وبنى وأحضر، أما آدم فمن نصيبه فعل واحد؛ فنام.
العوامل المطلوبة
وبما أن الله هو مؤسِّس الزواج الوحيد، وبما أنه وضع في كل أنحاء خليقته نظامًا يضمن نجاحها واستمرارها، مثل دورة البخار والأمطار، وتعاقب فصول السنة، ودوران الأرض المنتظم؛ ولهذا فقد وضع الله أيضًا في الزواج كل عوامل النجاح مثل بقية أعماله؛ والتي تجسدت في أربعة أمور هي: الغرض والحب والمسؤولية والعهد.
فمن ناحية الغرض، فقد فهم آدم أن الزواج ليس هدفًا في حد ذاته، ولكنه وسيلة لتحقيق الهدف؛ وهو تمجيد الله، والذي قال عن الإنسان: «لِمَجْدِي خَلَقْتُهُ وَجَبَلْتُهُ وَصَنَعْتُهُ» (إشعياء٤٣: ٧). وبما أن آدم قد سبق وأخذ وصية من الله، فعليه أن يمجد الله بطاعتها مع زوجته.
أما من ناحية الحب، فبعد أن رأى آدم زوجته وهي مقبلة في يد الله (أتخيل)، قال آدم عن زوجته: «هذِهِ الآنَ عَظْمٌ مِنْ عِظَامِي وَلَحْمٌ مِنْ لَحْمِي»، وهي أول قصيدة رومانسية في التاريخ. والحقيقة أن ضمان استمرار هذا الحب ليس هدايا الفالانتين وتذكر عيدي الميلاد والزواج فقط، ولكن أن تتصل موارد هذا الحب يوميًا بالمصدر اللا محدود له؛ وهو الله، كما تخبرنا آية المسيحية الشهيرة؛ «لأَنَّ اللهَ مَحَبَّةٌ» (١يوحنا٤: ٨).
ومن ناحية المسؤولية، فنقرأ أن آدم قال بعدها، مشيرًا لهدية الله له: «هذِهِ تُدْعَى امْرَأَةً لأَنَّهَا مِنِ امْرِءٍ أُخِذَتْ»، فشعر آدم بمسؤولية أن يسمِّيها، كما فعل مع بقية خليقة الله، رغم أن الله لم يأمره بذلك، وأخيرًا من ناحية العهد، فقد علَّق الكتاب المقدس «لِذلِكَ يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ وَيَكُونَانِ جَسَدًا وَاحِدًا» (تكوين٢: ٢٣، ٢٤)، وهكذا يستمر نجاح مشروع الله بالزواج، ووقتها سنهتف باقتناع وانبهار: «مَا أَعْظَمَ أَعْمَالَكَ يَا رَبُّ! كُلَّهَا بِحِكْمَةٍ صَنَعْتَ» (مزمور١٠٤: ٢٤).
عزيزي القارئ، لعلك الآن عرفت إجابة سؤال مقالنا، ولعلك غرست أفكاره عميقًا في ذهنك، لربما تستدعيها بعد حين في حياتك، ودعني ألخص هذه الإجابة لك هكذا:
ج: الزواج مشروع إلهي ناجح،
و بدون الله فهو بالتأكيد فاشل