بينما يعظِّم هذا العالم المستكبرين ويمجِّدهم، يطوِب إلهنا المساكين ويكرمهم!! فالناس شعارها «وَالآنَ نَحْنُ مُطَوِّبُونَ الْمُسْتَكْبِرِينَ وَأَيْضًا فَاعِلُو الشَّرِّ يُبْنَوْنَ» (ملاخي٣: ١٥)، يقولونها في تحدِّ سافر لله الذي قال أنه يقاوم المستكبرين!! لكن هذا لم ولن يغيّر فكر الله، مؤكِّدًا في كل يوم» الْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ» وليس هذا فقط بل أيضًا وعد بأن لهم ملكوت السماوات.
تُرى عزيزي من هم المساكين المطوبون؟ وما هي البركات التي لهم؟
أولاً: من هم المساكين الذين يطوبهم المسيح؟١. اسمح لي في البداية أن أذكر المناسبة التي جاءت فيها هذه العبارة. في حديث الرب يسوع في الموعظة على الجبل، في إنجيل متى الأصحاحات ٥-٧، عن مبادئ ملكوته، لم يكن يشرح طريق الدخول لهذا الملكوت بل صفات سكانه. ويبدأ بأول صفة لساكني هذا الملكو،ت وهي صفة المسكنة الروحية؛ لذا دعاهم الرب «الْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ». وهنا لا يقصد بالمساكين من هم الفقراء ماديًا، أو المتخلفين عقليًا، فالمسيح لم يقدِّم دعوة للتخلف والرجعية وحياة الهوان، بل حياة الاتضاع الواعي والروحي أمامه.
٢. فمن هم يا ترى «الْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ»؟ هم أولئك الذين أدركوا ضعفهم وأنهم لا شيء بدون الله، فأتوا أمامه بانكسار واتضاع معبّرين عن حاجتهم العميقة له واشتياقهم إليه كما تشتاق الإيل إلى جداول المياه. وكما صلى داود مرة للرب قائلاً «اِلْتَفِتْ إِلَيَّ وَارْحَمْنِي، لأَنِّي وَحْدٌ وَمِسْكِينٌ أَنَا» (مزمور٢٥: ١٦). وكل رجال الله الأتقياء أعلنوا أمام الله مسكنتهم الروحية، فموسى، على سبيل المثال، يعلن مرات عديدة مسكنته واحتياجه للرب في صراخاته المتكررة إليه.
٣. المسكين الأعظم!! ما أروع ربنا يسوع المسيح عندما يوصف بأنه «مسكين»؛ فنجده مُصليًا مُعلنًا حاجته الشديدة لله، ففي فاتحة مزمور١٠٢ نقرأ القول «صَلاَةٌ لِمِسْكِينٍ إِذَا أَعْيَا وَسَكَبَ شَكْوَاهُ قُدَّامَ اللهِ». وفي هذا المزمور نجده يسكب القلب معبِّرًا عن آلامه الرهيبة وانسحاق نفس هذا المسكين. وفي نهاية صلاته نجد إجابة الله له بالقول «إِلَى دَهْرِ الدُّهُورِ سِنُوكَ... وَأَنْتَ هُوَ وَسِنُوكَ لَنْ تَنْتَهِيَ».
٤. يعلن الرب بغضته لكبرياء الإنسان، وشعوره بالاستغناء عن الله، وهذا ما أعلنه لكنيسة لاودكية، «لأَنَّكَ تَقُولُ: إِنِّي أَنَا غَنِيٌّ وَقَدِ اسْتَغْنَيْتُ، وَلاَ حَاجَةَ لِي إِلَى شَيْءٍ، وَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ أَنْتَ الشَّقِيُّ وَالْبَئِسُ وَفَقِيرٌ وَأَعْمَى وَعُرْيَانٌ». وإلى مثل هؤلاء يحذِرهم الرب بالقول «أَنَا مُزْمِعٌ أَنْ أَتَقَيَّأَكَ مِنْ فَمِي». لكن الرب أيضًا في مراحمه يفتح لهم باب الرحمة قائلاً «فَكُنْ غَيُورًا وَتُبْ» (رؤيا٣: ١٦-١٩).
يا ليتنا نشعر بمسكنتنا الروحية ونعلنها للرب إلهنا ونأتي إليه ونلتصق به. نقول له مع موسى «إِنْ لَمْ يَسِرْ وَجْهُكَ فَلاَ تُصْعِدْنَا مِنْ ههُنَا». فحتمًا يميل أذنه إلينا ويسمعنا صوته المطمئن «وَجْهِي يَسِيرُ فَأُرِيحُكَ» (خروج٣٣: ١٤، ١٥).
ثانيًا: ما هي البركات التي للمساكين بالروح؟ما أكثر ما يقدِّمه الرب لكل شخص آمن بالمسيح وامتلأ قلبه بالاحتياج للرب والانكسار أمامه. ولهؤلاء المساكين يقدِّم لهم الرب الكثير:
١. جاء المسيح متجسدًا لأجل المساكين: «رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ» (لوقا٤: ١٨).
٢. الرب يسمع صلاة المسكين: «هذَا الْمِسْكِينُ صَرَخَ، وَالرَّبُّ اسْتَمَعَهُ، وَمِنْ كُلِّ ضِيقَاتِهِ خَلَّصَهُ» (مزمور٣٤: ٦). لقد جاءت هذه المسكينة، حنة، أمام الرب، بكت وسكبت قلبها، فجاءتها الاستجابة «اذْهَبِي بِسَلاَمٍ، وَإِلهُ إِسْرَائِيلَ يُعْطِيكِ سُؤْلَكِ الَّذِي سَأَلْتِهِ مِنْ لَدُنْهُ» (١صموئيل١: ١٧).
٣. لأن لهم ملكوت السماوات: والمقصود بملكوت السماوت ليس هو السماء،لأن دخول السماء ليس بصفاتنا وأعمالنا، بل ببرّ المسيح ونعمته المجانية. لكن ملكوت السماوات هي الدائرة التي يسود فيها المسيح على من يؤمن به، وليس من يعترف شفاهًا باسمه. فالمساكين الذين أظهروا احتياجهم وتعلّقهم وخضوعهم للرب، هم فعلًا الموجودين في هذه الدائرة التي تعلن سيادة مُلك المسيح.
٤. التقدير الإلهي: يقول الرب «وَإِلَى هذَا أَنْظُرُ إِلَى الْمِسْكِينِ وَالْمُنْسَحِقِ الرُّوحِ وَالْمُرْتَعِدِ مِنْ كَلاَمِي» (إشعياء٦٦: ٢). فما أروع هذه القول «وَإِلَى هذَا أَنْظُرُ : إِلَى الْمِسْكِينِ...». إنه يحمل لنا اهتمام وتقدير الرب لكل مسكين متضع أمامه، لقد أعلن الرب مرارًا وتكرارًا أنه يرى مذلة شعبه. وها هو يعلن تسديده لحاجتهم الروحية وأيضًا الزمنية «اَلْبَائِسُونَ وَالْمَسَاكِينُ طَالِبُونَ مَاءً وَلاَ يُوجَدُ... أَنَا الرَّبُّ أَسْتَجِيبُ لَهُمْ... لاَ أَتْرُكُهُمْ» (إشعياء٤١: ١٧).
٥. وما أروع ما أعدَه الرب في المستقبل – ولا سيما في مُلكه الألفي السعيد - عند مجيئه
لأولئك المساكين روحيًا، الذين آمنوا به، ووثقوا في شخصه، وألقوا بأنفسهم عليه تمامًا. ففي مزمور٧٢ نقرأ عن تمتع المساكين بحكم المسيح العادل «يَدِينُ شَعْبَكَ بِالْعَدْلِ، وَمَسَاكِينَكَ بِالْحَقِّ... يَقْضِي لِمَسَاكِينِ الشَّعْبِ» وأيضًا «طَعَامَهَا أُبَارِكُ بَرَكَةً. مَسَاكِينَهَا أُشْبعُ خُبْزًا» (مزمور٧٢: ٢، ٤؛ ١٣٢: ١٥).
إخوتي الأحباء.. ما أحوجنا لهذه الفضيلة الكريمة التي يُقدِّرها الله، ألا وهي المسكنة الروحية، فننزع كل اتكال منا على أنفسنا، ونلقي بذواتنا تمامًا على الرب، نكتفي به ونتعلق به. ويحفظنا الرب من الكبرياء والاستقلال عن الله ولا ننسى القول الإلهي «اللهَ يُقَاوِمُ الْمُسْتَكْبِرِينَ، وَأَمَّا الْمُتَوَاضِعُونَ فَيُعْطِيهِمْ نِعْمَةً» (١بطرس٥: ٥).