لحظات حاسمة في ليلة فارقة
بعد زلزلة رهيبة هزَّت أساسات السجن انفكت على إثرها القيود، انتفض من نومه مرتعدًا من هول الأزمة وعواقبها. هاجمته وحوش الهواجس في عتمة الليل، فأظلمت الدنيا في عينيه واكتنفته غيوم اليأس؛ وكان مزمعًا أن يقتل نفسه. كان البائس - رغم قوته ونفوذه كضابط روماني - يلتمس في أعماقه سبيلًا للنجاة؛ لذا طلب ضوءًا، فور سماعه لصوت صارخ لينقذه ويطمئنه ويهدئ قلبه المضطرب في قلب الحدث المرهب والوضع المنقلب: «لاَ تَفْعَلْ بِنَفْسِكَ شَيْئًا رَدِيًّا! لأَنَّ جَمِيعَنَا ههُنَا. فَطَلَبَ ضَوْءًا وَانْدَفَعَ إِلَى دَاخِل، وَخَرَّ لِبُولُسَ وَسِيلاَ وَهُوَ مُرْتَعِدٌ، ثُمَّ أَخْرَجَهُمَا وَقَالَ: يَا سَيِّدَيَّ، مَاذَا يَنْبَغِي أَنْ أَفْعَلَ لِكَيْ أَخْلُصَ؟ فَقَالاَ: آمِنْ بِالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ فَتَخْلُصَ أَنْتَ وَأَهْلُ بَيْتِكَ» (أعمال
١٦: ٢٥-٣٠).
كم أناس في حيرة وتخبط يطلبون ضوءًا؟
أضاء له النور، فرأى بولس وسيلا، فالتمس منهما في الحال، بتذلل وقلب حائر منكسر، أن يساعدوه كيف يخلص. هكذا أخذ سجان فيلبي خطوة هامة في الاتجاه الصحيح. كم أناس مثله اليوم من الباحثين المخلصين الذين اهتزت قلوبهم بأحداث مماثلة وفي عمق حيرتهم يطلبون ضوءًا؟ تزعزع أمانهم فجأة، واهتزت الثوابت أمامهم، وأراد الله أن يُنشئ فيهم جوعًا نحو المسيح المخلِّص؛ فطلبوا ضوءًا. ما أكثر الذين يلتمسون ولو شعاع من النور حولنا، يقنعهم بحالتهم وحاجتهم ليعرفوا كيف يخلصوا! كم أناس يرتعبون من الموت، ويلتمسون سَبِيلًا للنجاة من العذاب الأبدي!
كم من نفوس تتخبط في ظلام الحيرة ويطلبون ضوءًا؛ فهل تقدِّم لهم؟ ربما يلجأ أحدهم إليك ويلتمس ضوءًا، أنِر له. لا تبخل بإجابة أولئك الذين يسألونك عن شخصية المسيح أو طريق الخلاص، كن كريمًا ورحيمًا وشاهدًا أمينًا وأنر لهم!
أولاً: أنِر لهم بنور البِرّ العملي
هل تعلم أن سلوكك الصحيح وردود أفعالك الصحيحة في حياتك العملية اليومية هي بمثابة أشعة مضيئة وعلامات على الطريق؟ فهي تعطي مصداقية لإيمانك الذي يتبرهن أمام الناس بأمانتك وأعمالك الحسنة. «لِكَيْ تَكُونُوا بِلاَ لَوْمٍ، وَبُسَطَاءَ، أَوْلاَدًا ِللهِ بِلاَ عَيْبٍ فِي وَسَطِ جِيل مُعَوَّجٍ وَمُلْتَوٍ، تُضِيئُونَ بَيْنَهُمْ كَأَنْوَارٍ فِي الْعَالَمِ» (فيلبي٢: ١. ٥).
وما هو عمل النور؟ النور كاشف للحقيقة؛ حقيقة الإيمان الأصيل، كما أنه فاضح وموبِّخ للشر والتضليل. «وَأَنْ تَكُونَ سِيرَتُكُمْ بَيْنَ الأُمَمِ حَسَنَةً، لِكَيْ يَكُونُوا، فِي مَا يَفْتَرُونَ عَلَيْكُمْ كَفَاعِلِي شَرّ، يُمَجِّدُونَ اللهَ فِي يَوْمِ الافْتِقَادِ، مِنْ أَجْلِ أَعْمَالِكُمُ الْحَسَنَةِ الَّتِي يُلاَحِظُونَهَا» (١بطرس٢: ١٢). على سبيل المثال يوسف ببره وأمانته كان يضئ الطريق لرفقائه في السجن، ففتحوا قلوبهم له ليخبروه بأحلامهم. أمانة الفتاة المسبية أعطت لشهادتها مصداقية في بيت نعمان الأممي. حياة البر العملي ليوحنا المعمدان أعطت قوة لكرازته وأثَّرت حتى في العشارين وجنود الرومان، فسألوه: ماذا نفعل؟
تذكَّر عزيزي الشاب أن حياة البر العملي لا بد أن تضيء كالنور الكاشف. الذين يلتمسون معرفة الله بالحق يهتدون في ضياء الأمناء والأتقياء الذين في طريق حياتهم. كم من أناس رُبِحُوا للمسيح بواسطة زملاء أو جيران تميز سلوكهم بالأمانة والاستقامة ومخافة الرب.
ثانيًا: أنِر لهم بنور الرجاء
«قَدِّسُوا الرَّبَّ الإِلهَ فِي قُلُوبِكُمْ، مُسْتَعِدِّينَ دَائِمًا لِمُجَاوَبَةِ كُلِّ مَنْ يَسْأَلُكُمْ عَنْ سَبَبِ الرَّجَاءِ الَّذِي فِيكُمْ بوداعة وخوف» (١بطرس٣: ١٥). تُعلِّمنا كلمة الله أن يكون الجواب “سبيكة” من ثلاثة عناصر: فإن كان المعدن الرئيسي للجواب هو “الخبر” أي سبب الرجاء الذي عندنا، الذي نعلِّل به الفرح والسلام والصبر في الآلام. لكن يجب أن يكون الكلام ممتزجًا بالوداعة والخوف.
الجواب بوداعة، أي دون أن يكون في القلب أدنى رغبة في طلب نقمة الرب، أو حتى الحديث عن القصاص العادل الذي يجريه الرب على الأشرار بلغة الشماتة والتشفي. ويعني عدم الرد بلسانٍ متعالٍ أو إظهار أننا نفعل البِرّ بفضل قوتنا أو تقوانا أو أفضليتنا في ذواتنا.
أما عن الخوف هنا فهو مهابة الرب التي تجعل المؤمن يشهد بشجاعة مقدَّسة تخلو من الهواجس والشكوك. لأن الذي يخاف الرب لا يخشى من إنسان.
يا له من مزيج رائع متوازن من الوداعة والشجاعة المقدسة الصفتان اللتان ظهرتا في المسيح أيام تجسده.
لا شك أن صلوات وترانيم بولس وسيلا لفتت انتباه السجان والمساجين الذين كانوا يسمعونهما. من الذي يرنم رغم السجن ووسط الضيق؟! من الذي ملأ قلبيهما بالسلام وزين سلوكهما بالوداعة. ربما هذه التساؤلات جعلت السجان يفهم أنَّ هذين المسجونين يعرفان طريق الحرية الحقيقة، وأن لديهما رجاءً رغم كل دواعي الشقاء؛ فجثا أمامهما متضعًا ومرتعدًا يلتمس طريق الخلاص.
ثالثًا: أنِر لهم بنور الإنجيل
ما سبق كان بمثابة حلقات في سلسلة تتوِّج بهذه الإضاءة الكاشفة والمغيِّرة. نور الرجاء المعزّي ونور البِرّ العملي إنما هما أشعة مضيئة على الطريق لتهدي النفوس إلى نور الإنجيل. الشيطان عدو النفوس وعدو كل بر يعمي أذهان غير المؤمنين لئلا يصل إليها ضياء الإنجيل «الَّذِينَ فِيهِمْ إِلهُ هذَا الدَّهْرِ قَدْ أَعْمَى أَذْهَانَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، لِئَلاَّ تُضِيءَ لَهُمْ إِنَارَةُ إِنْجِيلِ مَجْدِ الْمَسِيحِ، الَّذِي هُوَ صُورَةُ اللهِ... لأَنَّ اللهَ الَّذِي قَالَ: أَنْ يُشْرِقَ نُورٌ مِنْ ظُلْمَةٍ، هُوَ الَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا، لإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ اللهِ فِي وَجْهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ» (٢كورنثوس٤: ٤-٦).
لا تستحِ بالإنجيل لأن فيه قوة الله للخلاص وفيه أسمى إعلان عن محبة الله التي تجلَّت في موت الصليب.
صديقي.. يا من لا تزال في عتمة الحيرة والشك، اطلب من الله أن يعطيك نورًا يكشف حالتك وحاجتك، وانتظره بثقة حتمًا سيوافيك ويضيء لك الطريق، سيقودك إلى المسيح؛ فهو الطريق والحق والحياة وهو المخلِّص الوحيد.