قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية بسنوات قليلة، اشتد العدوان النازي على كثير من البلاد الأوربية خاصة “تشيكوسلوفاكيا”، مما عرض حياة الكثير من سكانها - خاصة اليهود - إلى الموت المحقق. تحركت كثير من الدول والهيئات لإنقاذ هؤلاء المهدَّدين، لكن للآسف أغلب محاولاتهم باءت بالفشل، وقُتل الكثير منهم على أيدي القوات النازية الوحشية. أمام مشهد الدمار، الخراب وسفك الدماء، تحرَّكت مشاعر الشاب الإنجليزي “نيكولاس وينتون” (صاحب الـ٢٩ عامًا) لإنقاذ ما يمكنه إنقاذه. وبالفعل ذهب إلى أرض المعركة، بعد أن رتَّب مع بعض العائلات - في بلاد مختلفة - أبدت استعدادها لاستضافة المشرَّدين والمهجَّرين. وبمجرد وصوله وضع على عاتقه إنقاذ الأطفال بالتحديد، حتى إنه في مايو ١٩٣٩ (بعد اندلاع الحرب بشهرين) نظَّم رحلات ٨ قطارات لإنقاذ ٦٦٩ طفلًا ما بين براج ولندن، بعد أن أعدَّ مجلدًا خاصًا يحوي أسماء وصور للأطفال المهجَّرين.
ظلت هذه الواقعة طي الكتمان، لم يشارك نيكولاس بها أحدًا على مدار أكثر من ٥٠ عام. حتى وقع ذلك المجلد بالصدفة في أيدي زوجته (عام ١٩٨٨) والتي بدورها أدركت قيمة العمل العظيم الذي قام به زوجها؛ فحاولت الاتصال بكثير من وسائل الإعلام والصحافة، غير إنها لم تجد سوى صحيفة واحدة انجذبت لقصته. كتبت عنه فتعرَّف الناس عليه. كما إنها حاولت التواصل مع الأطفال الذين وردت أسماؤهم في المجلد، فالفعل نجحت في الوصول إلى حوالي٢٥٠ شخص منهم. تم ترتيب للقاء بينهم مع منقذ الأطفال - وينتون - من دون إخباره بطبيعة وخاصية الحضور. وفي لحظة واحدة وقف الجميع تقديرًا وإجلالًا لذلك الرجل الذي أنقذ حياتهم من نحو ٥٠ سنة؛ فلولاه لأصبحوا في عداد الأموات لو لم يتحرك لإنقاذهم. وإذ تذكَّر تلك اللحظات العصيبة، انهالت دموع منقذ الأطفال عند رؤيته لأطفاله بعد أن أصبحوا رجالًا واعتلى الكثير منهم مراكز مرموقة في مجتمعات مختلفة.
توفى نيكولاس وينتون في عام ٢٠١٥ عن عمر يناهز ١٠٦ عام، بعد أن استطاع إنقاذ حياة مئات من الأطفال، فكتب اسمه بأحرف من النور في التاريخ الإنجليزي، وحصل على كثير من الجوائز والأوسمة بسبب عمله الشريف هذا.
استوقفتني كثيرًا قصة ذلك البطل المغوار الذي استطاع أن يختفي عن الأنظار بالرغم من إنقاذه لحياة مئات من الأطفال وسط أجواء الحرب القاتلة. ومن قصته تعلمت ٣ دروس، أريد أن أشاركك إياها أخي العزيز:
١. رغبة في التحرير
تولَّدت لدي نيكولاس رغبة حقيقة لإنقاذ الكثيرين الذين يواجهون الموت، لدرجة أنه خاطر بحياته وذهب لأرض المعركة بنفسه، وكان على استعداد أن يضحي بحياته لينقذ هؤلاء الأطفال.
هل تذكر معي الشعار المحترم الذي اتخذه الرسول بولس «لكِنَّنِي لَسْتُ أَحْتَسِبُ لِشَيْءٍ، وَلاَ نَفْسِي ثَمِينَةٌ عِنْدِي، حَتَّى أُتَمِّمَ بِفَرَحٍ سَعْيِي وَالْخِدْمَةَ الَّتِي أَخَذْتُهَا مِنَ الرَّبِّ يَسُوعَ، لأَشْهَدَ بِبِشَارَةِ نِعْمَةِ اللهِ» (أعمال٢٠: ٢٤). فمع مرور الوقت والخدمة للرب يسوع كانت هذه الرغبة الحقيقة والعميقة في قلبه لإنقاذ الكثيرين من عبودية الخطية؛ فكان دائمًا يسعى، وبفرح، ليكمل هدفه النبيل مهما واجه من صعوبات وتحديات.
ليساعدنا الرب ويشعل في قلوبنا رغبة حقيقة وصادقة للمشاركة برسالة الإنجيل مع البعيدين حتى ولو واجهنا عقبات كبيرة أمامنا. «أَنْقِذِ الْمُنْقَادِينَ إِلَى الْمَوْتِ، وَالْمَمْدُودِينَ لِلْقَتْلِ. لاَ تَمْتَنِعْ» (أمثال٢٤: ١١).
٢. ثمر كثير
لم يكن يتوقع نيكولاس أنه بمفرده سيكون قادرًا على إنقاذ حياة المئات، قد تكون أقصى طموحاته هي بعض الأفراد فحسب. لكنه لم يتهاون مع رغبة قلبه، وتحمَّل المسؤولية ذاهبًا إلى أرض المعركة، وهناك تبلورت رؤيته وفكرته فاستطاع إنقاذ حياة المئات.
لقد كلمنا الرب يسوع - الكرمة الحقيقة - عن روعة الإثمار في حياة المؤمن وما أحلاه الثمر الروحي، فهو ثمر مبارك، متضاعف بل ودائم الأثر «لَيْسَ أَنْتُمُ اخْتَرْتُمُونِي بَلْ أَنَا اخْتَرْتُكُمْ، وَأَقَمْتُكُمْ لِتَذْهَبُوا وَتَأْتُوا بِثَمَرٍ، وَيَدُومَ ثَمَرُكُمْ» (يوحنا١٥: ١٦). لقد أكد المسيح قائلاً «مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ» (متى٧: ١٦). وهنا دعني أسألك قارئي العزيز: هل يرى من هم حولك ثمار الروح القدس فيك، أم إنك مجرد حامل لاسم المسيح ولا تحمل صفاته وتعاليمه ومحبته؟!
احذر فقد قال المسيح «كُلُّ غُصْنٍ فِيَّ لاَ يَأْتِي بِثَمَرٍ يَنْزِعُهُ، وَكُلُّ مَا يَأْتِي بِثَمَرٍ يُنَقِّيهِ لِيَأْتِيَ بِثَمَرٍ أَكْثَرَ» (يوحنا١٥: ٢). ألا تشتاق معي لحياة الثمر المتضاعف في حياتك (ثلاثون وستون ومئة)؟ دعنا نصلي مع المرنم:
خليني أكون غصن في مسيحي مليان ثمار
أشهد بروحك وبكلامك عن اختبار
٣. عرفان وتقدير
لقد أخفى وينتون سر إنقاذه لحياه المئات من الأطفال لقرابة الخمسين عام، حتى جاء التوقيت المناسب وتم الكشف عن “المنقذ السري” لحياة ٦٦٩ طفلاً من الموت أثناء الحرب العالمية الثانية، وعندها تبنت قصته وسائل الإعلام وخرجت قصته للنور. تكلم الكثيرين عن بطولته، لكن حتما تقصر الكلمات جدَا بالنسبة لمن تم إنقاذ حياتهم بالفعل واختبروا بطولته أثناء أرض المعركة، فعاشوا طوال حياتهم مديونين لشخص يجهلونه، حتى جاءت اللحظة لرد العرفان والوفاء لذلك الرجل.
أخي، أختي قد تكون خدمتك للرب سرًا، لكن تأكد تمامًا أنه سيأتي يوم ويكرمك الرب قدام الجميع أمام كرسي المسيح. «أَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَة» (متى٦: ٦). فما أحلاها المُجازة الإلهية أن تسمع من السيد «نعِمَّا أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ الأَمِينُ! كُنْتَ أَمِينًا فِي الْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى الْكَثِيرِ. اُدْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ» (متى٢٥: ٢٣).
صلاة:
سيدي الغالي المسيح: أنت هو الكرمة الحقيقة..
املأ غصني فيك بالثمار الروحية..
أرسلني لأشارك إنجيلك مع المأسورين بالخطية..
فأعيش طوال عمري مقدِّرًا لصليبك كأسمى عطية..
إلى أن نلتقي وأبقى معك بطول الأبدية.