الإشكالية الانتقائية
ما زال السؤال الموجود في صدر المقال، يسبِّب إشكالية كبيرة تشغل الأذهان، وازدادت الإشكالية حِدَّة، عندما كثُرت الأحداث غير المفهومة في أيامنا، سواء كانت كوارث طبيعية (أعاصير أو زلازل أو ...)، أو أنماط سلوكية (شذوذ أو إدمان أو ...)، أو نزاعات سياسية (حروب أو تهجير أو ...).
وقد لاحظت أن هذه الإشكالية تخضع لانتقاء المواقف؛ فالإنسان يريد أن يكون مخيَّرًا في المتعة والحرية وعدم المساءلة، ويظل شعاره: “أنا حر أفعل ما أريد وقتما أريد”، ولكن عندما تهاجمه كارثة أو مصيبة، يُلقي اللوم مباشرةً على الله، ولسان حاله: “أنا أريد وأنت تريد والله يفعل ما يريد”.
القدر الإجباري
والحقيقة أن من يقولون أن الإنسان مُصيَّر (أي محدَّد المصير) في كل شيء، يبنون منطقهم على أنه هناك الكثير من الأمور التي يولد بها الإنسان، ولم يكن له دخل في اختيارها؛ فهو لم يختَر جنسه، ولا عائلته، ولا شكله، ولا مكان وتاريخ ميلاده، ولا حتى دينه أو عقيدته.
ولكن لا يبدو هذا المنطق بريئًا كما يبدو، لأن أصحابه ينفون من ورائه أي مسؤولية أدبية أو أخلاقية على الإنسان؛ فالمسكين مُصيَّر ومسلوب الإرادة، وليس له أي اختيار في هذه الحياة، وبالتالي فلا قيمة لأي وصايا له، ولا داعٍ لأي دينونة عليه، ولا معنى لخطية تصدر منه. والعجيب أن هؤلاء المتفلسفون قد يستخدمون بعض آيات الكتاب المقدس بشكل مغلوط محاولة لإثبات رأيهم.
والحقيقة أن الرد الحاسم على من ينزعون حرية الإرادة من الإنسان، يمكن أن يكون من خلال الواقع المُعاش، صحيح أن الإنسان يكون منزوع الاختيارات خلال فترة طفولته؛ فوالديه يختاروا له أكله، وشربه، ومدرسته، وملابسه “الأكبر” من مقاسه، لكن بنضوج الإنسان يبدأ في اختيار كليته، وبالتبعية عمله، ثم شريك حياته، وفي كل هذه الاختيارات يتحمل الإنسان مسؤولية اختياراته؛ إذًا فالإنسان مُخيَّر وليس مُصيَّر.
المخاطرة الإلهية
الله لم يخلق الإنسان آليًا دون فكر أو إرادة أو مشاعر، مع أنه كان الاختيار الأسهل لله، ووقتها لن تكون هناك معصية تهين قداسته، أو فساد يزكم أنفه، ولكنها ستكون أيضًا قمة الإهانة لله؛ وستظهره بصورة سادية وديكتاتورية، وكأنه يجبر البشر على طريق عبادته، وحاشا لله الطيب الرؤوف أن يكون كذلك.
ولكن الله خلق الإنسان على صورته (تكوين١: ٢٧)، وميَّزه بنسمة حياته (تكوين٢: ٧)، وبذلك أعطى الله للإنسان حرية طاعته أو عصيانه.
وليس هذا فقط، لكننا نقرأ مثلاً ما قاله الله لشعبه إسرائيل، والذي يُعتبَر “عيّنة” من بقية الشعوب: «أُشْهِدُ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ. قَدْ جَعَلْتُ قُدَّامَكَ الْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ. الْبَرَكَةَ وَاللَّعْنَةَ. فَاخْتَرِ الْحَيَاةَ لِكَيْ تَحْيَا أَنْتَ وَنَسْلُكَ» (تثنية٣٠: ١٩). فمن محبة الله للبشر، أرشدهم للاختيار الصحيح؛ سواء عبر الأمر المباشر “اختر الحياة”، أو عبر تبصيرهم بالنتائج الحادثة في كلا الطريقين.
تمامًا مثل المدرس المحب لتلاميذه، الذي يرشدهم إلى اختيار الإجابة الصحيحة، ولكنه أبدًا لن ينزع إرادتهم، أو يجيب بدلاً منهم في ورقة الإجابة، وحين تظهر النتيجة، لن يستطيع أحد أن يلومه، لا على صعوبة الامتحان، ولا على عدم معرفتهم المسبقة للنتائج؛ فالامتحان مصنوع أساسًا لكي ينجح فيه التلاميذ.
حل الإشكالية
ولكن إن كان الإنسان مُخيَّرًا بالفعل، ومسؤولاً عن كافة قراراته، فبماذا نفسِّر الكثير من الأحداث التي تحدث له دون أن يختارها، ويكون هو بالفعل “مُصيَّر” فيها؟
الحل في وجهة نظري في كلمة “إنسان”؛ فالإنسان حُرّ لكنه في ذات الوقت محدود في إمكانياته. فهو حر أن يتعلم السباحة، لكنه ليس حرًا في تعلم الطيران؛ فهذا فوق إمكانياته. وهو حُرّ في أخذ احتياطاته وقت الأعاصير والزلازل، ولكنه ليس حرًا في منعها من الأساس، فهذا أيضًا فوق إمكانياته.
وبنفس هذا المنطق، فإن الله أيضًا له حرية الاختيار في حدود إمكانياته غير المحدودة أصلاً، فهو من قال لموسى: «وَأَتَرَاءَفُ عَلَى مَنْ أَتَرَاءَفُ، وَأَرْحَمُ مَنْ أَرْحَمُ» (خروج٣٣: ١٩)، ومن قالت عنه حنة المصلية «الرَّبُّ يُمِيتُ وَيُحْيِي. يُهْبِطُ إِلَى الْهَاوِيَةِ وَيُصْعِدُ. الرَّبُّ يُفْقِرُ وَيُغْنِي. يَضَعُ وَيَرْفَعُ» (١صموئيل٢: ٦، ٧)، ومن قال عنه أيوب «وَمَنْ يَقُولُ لَهُ: مَاذَا تَفْعَلُ؟» (أيوب٩: ١٢)، وهو أيضًا من قال بشكل رمزي: «أَوَ مَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَفْعَلَ مَا أُرِيدُ بِمَا لِي؟ أَمْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةٌ لأَنِّي أَنَا صَالِحٌ؟» (متى٢٠: ١٥).
الفاعل الأعظم
ويبقى درسنا المُعزي والمطمئن، أنه مهما كانت اختيارات البشر فاسدة وضارة، فإنها لن تستطيع أن تتغوَّل على اختيارات الله الصالحة والرائعة لنا؛ ولهذا فعلى الإنسان في كل الأحوال، أن يحذف الفاعلِين الموجودين في حياته، وينظر فقط للفاعل الأعظم؛ وهو الله القدير.
وهذا ما فعله صاحب المزمور، الذي تساءل متحيرًا: «إِذَا انْقَلَبَتِ الأَعْمِدَةُ، فَالصِّدِّيقُ مَاذَا يَفْعَلُ؟»، لكنه سرعان ما أجاب بعدها «الرَّبُّ فِي هَيْكَلِ قُدسِهِ. الرَّبُّ فِي السَّمَاءِ كُرْسِيُّهُ» (مزمور١١: ٢، ٣). فطالما الرب على كرسيه في السماء، فالاختيار الأخير له، وفعله أكبر من أي ظروف أو صُدف أو أشرار على الأرض.
وهذا ما قاله أيضًا يوسف لأخوته: «وَالآنَ لاَ تَتَأَسَّفُوا وَلاَ تَغْتَاظُوا لأَنَّكُمْ بِعْتُمُونِي إِلَى هُنَا، لأَنَّهُ لاسْتِبْقَاءِ حَيَاةٍ أَرْسَلَنِيَ اللهُ قُدَّامَكُمْ. فَالآنَ لَيْسَ أَنْتُمْ أَرْسَلْتُمُونِي إِلَى هُنَا بَلِ اللهُ. وَهُوَ قَدْ جَعَلَنِي أَبًا لِفِرْعَوْنَ وَسَيِّدًا لِكُلِّ بَيْتِهِ وَمُتَسَلِّطًا عَلَى كُلِّ أَرْضِ مِصْرَ... لاَ تَخَافُوا. لأَنَّهُ هَلْ أَنَا مَكَانَ اللهِ؟» (تكوين٤٥: ٧، ٨؛ ٥٠: ١٩).
فاخوة يوسف كانوا “مخيَّرين” وهم يبيعوه، وامرأة فوطيفار كانت “مخيَّرة” وهي تظلمه، وفوطيفار كان “مخيَّرًا” وهو يصدِّقها؛ ولكن كل هؤلاء لم يستطيعوا أن يمنعوا الله الذي كان “مُخيرًا” في أن يرسل يوسف إلى مصر، ويجعله سيدًا عليها، ويُسبِّبه مخلِّصًا لها ولكل الأرض وقتها.
ج: الّإنسسان مُخيَّر في كل ما هو إنساني، ومُصيَّر في كل ما هو فوق إنساني