صَدِّق ولا بد أن تُصدِّق: اقتحم قطيع من الأغنام عددهم ١٢، وكرًا للذئاب المفترسة، في ظاهرة فريدة من نوعها. فكيف للأغنام الوديعة الهادئة أن تقدم على هذا العمل دون خوف أو ارتباك؟ فمن الطبيعي أن الذئاب هي التي تهجم على الأغنام لتفترسها، ولكن في هذه الحادثة الغريبة نجد الأغنام وبأمر مباشر من راعيهم الذي يحبهم ويخاف عليهم يرسلهم ليقتحموا أوكار الذئاب.
بالتأكيد ارتسمت في مخيلتك الآن علامات استفهام لا حصر لها وعلامات تعجب لا عدد لها: كيف؟ ومتى؟ وأين؟ ولماذا؟
كل هذه الأسئلة تذوب من ذهنك كما يذوب الثلج أمام حرارة الشمس المشرقة، وذلك عندما نأتي معًا لنقرأ جزءً من كلمة الله «هؤُلاَءِ الاثْنَا عَشَرَ أَرْسَلَهُمْ يَسُوعُ وَأَوْصَاهُمْ قَائِلاً: إِلَى طَرِيقِ أُمَمٍ لاَ تَمْضُوا، وَإِلَى مَدِينَةٍ لِلسَّامِرِيِّينَ لاَ تَدْخُلُوا. بَلِ اذْهَبُوا بِالْحَرِيِّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ...هَا أَنَا أُرْسِلُكُمْ كَغَنَمٍ فِي وَسْطِ ذِئَابٍ، فَكُونُوا حُكَمَاءَ كَالْحَيَّاتِ وَبُسَطَاءَ كَالْحَمَامِ» (متى١٠: ٥، ١٦). ومن هذا النص نتعلم بعض الحقائق العظيمة:
١- المعجزة الإلهية: إنها بحق معجزة إلهية أن تتحول الذئاب إلى حملان؛ فهؤلاء الحملان اقتحموا وكر الذئاب لا ليشنوا عليهم حربـًا ضروسًا، لأن هذا ليس من طبع الحملان التي تتميز بالوداعة مثل راعيها، ولكن هذه الحملان وهي تقتحم أوكار الذئاب معها رسالة عظيمة هي رسالة الخلاص، الأخبار السارة التي تحوِّل الذئاب المفترسة إلى حملان وديعة والتاريخ نفسه يشهد على ذلك.
وإليك أمثلة حية من الواقع، زكا الذي كان ذئبـًا مفترسـًا يأكل مال اليتامى والفقراء والأرامل بعد أن تحوَّل حملاً يقول للرب نصف أموالي للفقراء وإن كنت قد وشيت بأحد أرد له أربعة أضعاف.
ذئبـًا آخر كان ينفث قتلاً وتهددًا على تلاميذ الرب ويسوق الرجال والنساء مقيدين إلى السجن، وقد كان هو المشرف على تنفيذ الإعدام رجمـًا بالحجارة في أول شهيد في المسيحية: استفانوس. كان هذا الذئب هو شاول الطرسوسي ولكن بعد أن تحول حملاً وديعـًا أصبح أعظم كارز بالمسيح ويقول لمخدوميه: المشتاق إليكم في أحشاء يسوع المسيح، وقد كتب إلينا أصحاحـًا كاملاً عن المحبة التي تتأنى وترفق (١كورنثوس١٣).
ناهيك عن اللصوص والقتلة والزناة والمدمنين، وكثير من القبائل آكلي لحوم البشر بعد أن سمعوا رسالة الخلاص وكانوا ذئابـًا تحولوا إلى حملان.
بحق إنها معجزة إلهية فلا يستطيع أن يحوِّل الذئاب إلى حملان إلا رسالة الخلاص وبعمل الروح القدس.
٢- تحديد دائرة الخدمة: فقد قال لهم الرب يسوع «بَلِ اذْهَبُوا بِالْحَرِيِّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ» (متى١٠: ٦) وهنا سؤال يطرح نفسه لماذا منعهم من الذهاب إلى الأمم وإلى السامريين؟ هل اسرائيل أكثر احتياجـًا من الأمم ومن السامريين؟ ولماذا قال لهم اذهبوا إلى خراف بيت اسرائيل الضالة؟ هل الأمم والسامريين لم يضلوا؟ أم اليهود أكثر ضلالاً منهم؟
كلا، بل الكل محتاج للخدمة ولكن الرب أرسل التلاميذ في هذا التوقيت إلى اسرائيل ولكن في أعمال١ يقول لهم أن يشهدوا له في السامرة وأقصى الأرض.
وهنا يجب على من يخدم الرب ألا يتحرك وفقـًا للدائرة المحتاجة، فليس هذا المقياس الصحيح لأن الكل محتاج ولكن على الخادم أن يتحرك وفقـًا للأوامر الإلهية.
٣- مادة الكرازة: قال لهم الرب يسوع في ع٧ وفيما أنتم ذاهبين إكرزوا قائلين «قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ» وهنا نتعلم أمرين:
إن الناس في هذا الزمان كانوا يعانون من فساد ديني متمثل في الكتبة والفريسيين، وفساد سياسي متمثل في هيرودس وبيلاطس، ويشتاقون أن يسمعوا عن ملك ومملكة يسود فيها البر والعدل، هذه المملكة التي تسمى ملكوت السماوات التي نرى دستورها ومبادئها الأخلاقية في الموعظة على الجبل (متى٥-٧)، والتي بدأها الرب بتطويب المساكين والحزانى والجياع والعطاش إلى البر، والذين لم يلقوا اهتمامـًا من المؤسسة الدينية أو السياسية وهذا هو الخبر السار المُفرح اقترب ملكوت السماوات.
أيضـًا نتعلم أن الخادم عندما يتكلم، لا يتكلم من ذاته بل «إِنْ كَانَ يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ فَكَأَقْوَالِ اللهِ» (١بطرس٤: ١١) وكما قال الرب لموسى «فَالآنَ اذْهَبْ وَأَنَا أَكُونُ مَعَ فَمِكَ وَأُعَلِّمُكَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ» (خروج٤: ١٢). شيء خطير أن يتكلم الخادم بكلام لم يأمر به الرب، كما كان يفعل الأنبياء الكذبة في زمن إرميا النبي (إرميا٢٣).
٤- الكلفة الكبيرة: لقد تكلفت هؤلاء الحملان كلفة كبيرة، ولك أن تتخيل حملانـًا تقتحم وكرًا للذئاب فلا بد للذئاب بأن تفترسها، وهذا ما شهد به التاريخ بعد ذلك؛ فمعظم التلاميذ ماتوا شهداء، حتى يوحنا الحبيب الذي مات ميتة طبيعية قضى أواخر حياته منفيـًا في جزيرة بطمس.
٥- جرأة منقطعة النظير: هؤلاء الحملان لم يخافوا، ولم يحبوا حياتهم حتى الموت، بل كان شعارهم ولا نفسي ثمينة عندي (أعمال٢٠: ٢٤)، وأيضـًا حاربوا وحوشـًا في أفسس وكما ذكر أيضا بولس في ٢كورنثوس١١: ٢٣ عن كم الآلام التي تعرض لها من الذئاب، من سجون وميتات وجلد ورجم ولصوص. كل هذه المضايقات واجهها الحملان في وكر الذئاب.
٦- حصاد وفير: رغم كل هذا التعب، لكن نتائج هذه الإرسالية كانت مضمونة لدرجة أن الكرازة وصلت إلى بيت قيصر، وهذا القيصر لم يكن ذئبًا مفترسا بل هو أسد ملك الغابة، مما وصفه الرسول بولس قائلاً عنه «فَأُنْقِذْتُ مِنْ فَمِ الأَسَدِ» (٢تيموثاوس٤: ١٧). لقد دخل بولس عرين الأسد وكاد أن يلتهمه ولكن لكي تتم به الكرازة انقذه الرب، ولم ينقذه فقط بل خرج من عرين الأسد بصيد ثمين، قال عنه في فيلبي «يُسَلِّمُ عَلَيْكُمْ جَمِيعُ الْقِدِّيسِينَ وَلاَ سِيَّمَا الَّذِينَ مِنْ بَيْتِ قَيْصَرَ» (فيلي٤: ٢٢). وهذا ما عبر عنه الرب في إرساليته للتلاميذ»إِنَّ الْحَصَادَ كَثِيرٌ، وَلكِنَّ الْفَعَلَةَ قَلِيلُونَ» (لوقا١٠: ٢).
هبني يا إلهي رؤيةَ الإيمانِ
حتى أنظرَ نحوَ الحقول
فأرى الحصادَ يملأُ البقاعَ
وكذا الجبالَ والسهول
يا ربَّ الحصادِ أرسل للحصادِ
جيشًا يعملُ في حقلِكَ
يتركُ المشاغِل يحملُ المشاعِل
يُعلنُ اقترابَ مُلكِكَ