كذبة عميقة
لو افترضنا وجود جهاز يشق صدور المؤمنين بالمسيح، ويفحص ما بداخلهم من أفكار، سنجد فكرة مستريحة جدًا عند كثيرين منهم؛ مفادها أن إرادة الله هي دائمًا ضد الإنسان؛ فالله يريدني أن أتزوج امرأة قبيحة ليعلمني التعفف، ويريدني أن أكون فقيرًا ليعلمني الاكتفاء، ويريد أن يشبعني بالتجارب ليعلمني الصبر، ولا يريدني أن أهاجر ليبقيني دائمًا داخل حدود طاعته.
وحتى لو اختفت هذه الفكرة - أو بالحري الكذبة - عميقًا في قلوبنا، ونطقنا ترانيم ”الرب صالح“ بشفاهنا، فإن أي محك عملي أو حوار غير كنسي، يكشف حالاً غطاء البالوعة التي تغطي هذه الكذبة داخلنا، وعلى الفور تصدر منا أنَّات التذمُّر على أوضاعنا، والندم على فرص كثيرة نقول إن الله أضاعها علينا.
إخفاء الخير
والحقيقة أن أصل هذه الكذبة، كان في كلام الحية لجدتنا حواء، فبعد أن قالت لها حواء: «مِنْ ثَمَرِ شَجَرِ الْجَنَّةِ نَأْكُلُ، وَأَمَّا ثَمَرُ الشَّجَرَةِ الَّتِي فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ فَقَالَ اللهُ: لاَ تَأْكُلاَ مِنْهُ وَلاَ تَمَسَّاهُ لِئَلاَّ تَمُوتَا»، ردت عليها الحية: «لَنْ تَمُوتَا! بَلِ اللهُ عَالِمٌ أَنَّهُ يَوْمَ تَأْكُلاَنِ مِنْهُ تَنْفَتِحُ أَعْيُنُكُمَا وَتَكُونَانِ كَاللهِ عَارِفَيْنِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ» (تكوين٣: ٢–٥).
فالحية أقنعت حواء أن إرادة الله هي ضدها هي وزوجها، لأن الله يخفي عنهما خيرًا جزيلاً، بدليل منعهما من الأكل من الشجرة، لكيلا يكونا مثله، وبذلك ترسخ داخل حواء يقين بعدم صلاح الله معها، «فَرَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّ الشَّجَرَةَ جَيِّدَةٌ لِلأَكْلِ، وَأَنَّهَا بَهِجَةٌ لِلْعُيُونِ، وَأَنَّ الشَّجَرَةَ شَهِيَّةٌ لِلنَّظَرِ. فَأَخَذَتْ مِنْ ثَمَرِهَا وَأَكَلَتْ، وَأَعْطَتْ رَجُلَهَا أَيْضًا مَعَهَا فَأَكَلَ» (تكوين٣: ٦).
وهنا أول دروسنا، فما يشككنا في صلاح الله، أن نظن أنه يبخل بخيراته علينا أو ”يستخسره فينا“، مع أن العكس تمامًا هو الصحيح، لأن الله يمنع شرورًا لا تحصى عنا، ويطاردنا فقط بخيراته، كما قال داود في مزموره الشهير: «إِنَّمَا خَيْرٌ وَرَحْمَةٌ يَتْبَعَانِنِي كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِي، وَأَسْكُنُ فِي بَيْتِ الرَّبِّ إِلَى مَدَى الأَيَّامِ» (مزمور٢٣: ٦)، وكما قال المسيح في موعظته الشهيرة «فَإِنْ كُنْتُمْ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا أَوْلاَدَكُمْ عَطَايَا جَيِّدَةً، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ أَبُوكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، يَهَبُ خَيْرَاتٍ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ!!» (متى٧: ١١).
معلومات زائدة
أما الضلع الثاني من هذه الكذبة، نجده في قصة حدثت مع شعب الله القديم؛ فبعد أن أخرجه الرب بيده القديرة، وبعد أن سدد احتياجاته المليونية في برية قاحلة، نجد الأمر الإلهي من الرب لموسى كليمه: «أَرْسِلْ رِجَالاً لِيَتَجَسَّسُوا أَرْضَ كَنْعَانَ الَّتِي أَنَا مُعْطِيهَا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ»، وبالفعل ذهب ١٢ جاسوسًا، وقضوا ٤٠ يومًا هناك، وكان تقريرهم مصادق تمامًا لكلام الله، فقالوا: «قَدْ ذَهَبْنَا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أَرْسَلْتَنَا إِلَيْهَا، وَحَقًّا إِنَّهَا تَفِيضُ لَبَنًا وَعَسَلاً، وَهذَا ثَمَرُهَا» (عدد١٣: ٢، ١٧)، وهنا تكمن إرادة الله الصالحة لشعبه؛ فقد وعد وأوفى.
ورغم أن هذه هي فقط كانت المعلومة المطلوبة، إلا أن أغلب الجواسيس أضافوا معلومات أخرى رأوها هامة، رغم أنها كانت فرعية بالنسبة لله، فقالوا: «غَيْرَ أَنَّ الشَّعْبَ السَّاكِنَ فِي الأَرْضِ مُعْتَزٌّ، وَالْمُدُنُ حَصِينَةٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا وَأَيْضًا قَدْ رَأَيْنَا بَنِي عَنَاقَ هُنَاكَ... فَأَشَاعُوا مَذَمَّةَ الأَرْضِ الَّتِي تَجَسَّسُوهَا... قَائِلِينَ: الأَرْضُ الَّتِي مَرَرْنَا فِيهَا لِنَتَجَسَّسَهَا هِيَ أَرْضٌ تَأْكُلُ سُكَّانَهَا... فَكُنَّا فِي أَعْيُنِنَا كَالْجَرَادِ، وَهكَذَا كُنَّا فِي أَعْيُنِهِمْ» (عدد١٣: ٢٨، ٣٢، ٣٣).
وهنا أكبر خطإٍ فعله هؤلاء، ونفعله نحن أيضًا، حين نضيف تصوراتنا الخاصة على وعود الله، فنضخِّم من صورة أعدائنا في خيالنا، ونركِّز فقط على التحديات والأخطار التي تواجهنا، بل ونتجاهل وعود الله بالقوة والحماية، وحينها نشعر أن الله تخلى عنا، وأن إرادته هي دائمًا ضدنا، ووقتها نفتقد لغة الإيمان التي كانت عند رجل الله كالب، حين التزم بمعلومة الأرض وقال: «إِنَّنَا نَصْعَدُ وَنَمْتَلِكُهَا لأَنَّنَا قَادِرُونَ عَلَيْهَا» (عدد١٣: ٣٠).
سبب العصيان
ولم تنتهِ قصة الشعب عند مجرد الأفكار والتصورات الوهمية، ولكنها أثّرت على حالتهم النفسية «فَرَفَعَتْ كُلُّ الْجَمَاعَةِ صَوْتَهَا وَصَرَخَتْ، وَبَكَى الشَّعْبُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ»، وانتابهم الندم الشديد، فقالوا: «لَيْتَنَا مُتْنَا فِي أَرْضِ مِصْرَ، أَوْ لَيْتَنَا مُتْنَا فِي هذَا الْقَفْرِ! وَلِمَاذَا أَتَى بِنَا الرَّبُّ إِلَى هذِهِ الأَرْضِ لِنَسْقُطَ بِالسَّيْفِ؟ تَصِيرُ نِسَاؤُنَا وَأَطْفَالُنَا غَنِيمَةً»، والأصعب أنها تحولت لقرارات «فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: نُقِيمُ رَئِيسًا وَنَرْجعُ إِلَى مِصْرَ» (عدد١٤: ١-٤).
ولخص موسى ما فعله الشعب قائلاً: «جَيِّدَةٌ هِيَ الأَرْضُ الَّتِي أَعْطَانَا الرَّبُّ إِلهُنَا. لكِنَّكُمْ لَمْ تَشَاءُوا أَنْ تَصْعَدُوا، وَعَصَيْتُمْ قَوْلَ الرَّبِّ إِلهِكُمْ، وَتَمَرْمَرْتُمْ فِي خِيَامِكُمْ وَقُلْتُمُ: الرَّبُّ بِسَبَبِ بُغْضَتِهِ لَنَا، قَدْ أَخْرَجَنَا مِنْ أَرْضِ مِصْرَ لِيَدْفَعَنَا إِلَى أَيْدِي الأَمُورِيِّينَ لِكَيْ يُهْلِكَنَا» (تثنية١: ٢٥-٢٧)، ولو كان الله يبغضهم فعلاً، فما الداعي له أن يستجيب صراخهم ويخرجهم من مصر أصلاً، كان قتلهم مع أبكار المصريين، أو كان تركهم لوحوش البرية، أو كان صمت على صوت احتياجاتهم التي لا تنتهي من طعام وشراب؟!!
وهنا درسنا الثالث، فقبل كل خطية فعلناها، وكل قرار عصيان اتخذناه، كان يسبقه شكنا في صلاح الله معنا، وتوهمنا أنه يقف ضدنا، فتكون النتيجة أننا نبحث عن سواه، وتتم فينا الكلمات «لأَنَّ شَعْبِي عَمِلَ شَرَّيْنِ: تَرَكُونِي أَنَا يَنْبُوعَ الْمِيَاهِ الْحَيَّةِ، لِيَنْقُرُوا لأَنْفُسِهِمْ أَبْآرًا، أَبْآرًا مُشَقَّقَةً لاَ تَضْبُطُ مَاءً» (إرميا٢: ١٣).
عزيزي القارئ، ما أحلى أن نقول ونرنم ”الرب صالح“، ولكن ما أروع أن نؤمن من الداخل أن الرب صالح، فلا نعطي أذاننا لإبليس عدونا، الذي يريد أن يشكِّكنا في إلهنا، ويقنعنا أنه يخفي خيراته عنا، وعلينا أيضًا أن نُخرج يوميًا من داخلنا أي بذور للتذمر على الله، وننقي أفكارنا من أي أمور بخلاف كلمته ووعوده، وحسنًا ننفذ نصيحة بولس لنا «وَلاَ تُشَاكِلُوا هذَا الدَّهْرَ، بَلْ تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ، لِتَخْتَبِرُوا مَا هِيَ إِرَادَةُ اللهِ: الصَّالِحَةُ good الْمَرْضِيَّةُ acceptable الْكَامِلَةُ perfect» (رومية١٢: ٢).
ج: إرادة الله لصالحنا، لكن المشكلة في كذب عدونا، وفساد معلوماتنا، وعصيان قلوبنا