ربما قضى شهورًا يخطِّط لهذا الانقلاب، وتحيَّن اللحظة المناسبة للانقضاض على العرش، وتم له ما أراد. ربما امتلكه طموح لا يقبل إلا بالمكان الأول وقال لنفسه “أكون أو لا أكونto be or not to be”. وأخيرًا تحقَّقت له أمنيته، ونجحت خطته، وأصبح الملك!
لكن، هل كان يعلم أنه لن يهنأ بعرش إسرائيل إلا لبضعة أيام، وأنه سيموت منتحرًا بعد أسبوع واحد من جلوسه على العرش؟!
هو “زمري” الواردة قصته في سفر ملوك الأول إصحاح ١٦: ٨-٢٠، الملك صاحب أقصر فترة مُلك بين ملوك الكتاب المقدس.
وفي قصة زمري القصيرة لنا دروس كثيرة، منها:
من يرفع نفسه يتضع
كان لزمري منصب رفيع: رئيس نصف المركبات، أي قائد نصف فرقة المركبات (سلاح الفرسان). لكنه لم يكن قانعًا بهذا، وأراد المكان الأول في المملكة. “ليس أقل من أكون الملك”، ربما كان يقول هكذا لنفسه كل يوم!
كم من شخص أهلكته رغبته المحمومة أن يكون الأول في مجالات عدة، منها الحظوة والإكرام، مثل هامان (إستير٣: ٥)، الغنى والامتلاك مثل أخاب (١ملوك٢١)، السلطة مثل أبشالوم (٢صموئيل ١٥).
وآخرون أرادوا أفضل شيئًا فخسروا كل شيء؛ مثل شمشون الذي أراد أن يتزوج الأجمل في عينيه (قضاة ١٤) فخسر روعة الزواج وفقد عينيه بسبب من اختارتهم عينيه ثم فقد حياته. وآخرون ضربهم الرب لأنهم تكبَّروا وتجبَّروا مثل نبوخذنصر (دانيآل ٤)، وعزيا الذي أراد أن يغتصب لنفسه الكهنوت مع أنه الملك (٢أخبار ٢٦).
لا بد أن زمري قارن نفسه كثيرًا بأيلة - ملك إسرائيل وقتها - ودائمًا كان يخرج بالخلاصة “أنا أفضل منه وأحق منه بالمملكة”. ومقارنة أنفسنا بالآخرين بهذا الأسلوب عمل خطير؛ لذا يحذِّرنا الكتاب «لاَ تَكُنْ حَكِيمًا فِي عَيْنَيْ نَفْسِكَ. اتَّقِ الرَّبَّ وَابْعُدْ عَنِ الشَّرِّ» (أمثال٣: ٧) و«وَلاَ تشتهِ... شَيْئًا مِمَّا لِقَرِيبِكَ» (خروج٢٠: ١٧).
كان أيلة شريرًا وسكيرًا ولم يحفظ مملكته، وكان انقلاب زمري بمثابة قضاء إلهي عليه وعلى أبيه بعشا، ولكن زمري لم يكن أقل شرًا في كل ما فعل.
إن الرب يكره هذا التعالي «هذِهِ السِّتَّةُ يُبْغِضُهَا الرَّبُّ، وَسَبْعَةٌ هِيَ مَكْرُهَةُ نَفْسِهِ عُيُونٌ مُتَعَالِيَةٌ» (أمثال٦: ١٦-١٧).
أليست هذه هي خطية الشيطان التي أسقطته من السماء عندما قال في قلبه «أَرْفَعُ كُرْسِيِّي فَوْقَ كَوَاكِبِ اللهِ، وَأَجْلِسُ عَلَى جَبَلِ الاجْتِمَاعِ فِي أَقَاصِي الشَّمَالِ. أَصْعَدُ فَوْقَ مُرْتَفَعَاتِ السَّحَابِ. أَصِيرُ مِثْلَ الْعَلِيّ» (إشعياء ١٤ :١٣-١٤). لذا قال الرب للأشرار «أَنْتُمْ مِنْ أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ، وَشَهَوَاتِ أَبِيكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا» (يوحنا٨: ٤٤).
الرب هو الذي «يُفْقِرُ وَيُغْنِي. يَضَعُ وَيَرْفَعُ» (١صموئيل٢: ٧). وقد وضع قانونًا وهو «مَنْ يَرْفَعْ نَفْسَهُ يَتَّضِعْ، وَمَنْ يَضَعْ نَفْسَهُ يَرْتَفِعْ» (متى ٢٣: ١٢).
على العكس من ذلك، هناك كثيرون قَبِلوا أوضاعًا أقل مما يستحقون، وبعد ذلك رفعهم الرب لأوضاع لم تكن تخطر لهم على بال، مثل: يوسف وداود ودانيآل واستير ومردخاي وغيرهم.
هنا تبرز أهمية أن يكون هناك مكابح (فرامل) للطموح، ومن يملك روحه خير ممن يأخذ مدينة (أمثال١٦: ٣٢).
وهكذا من تسوقهم شهواتهم قد يضحّون بأي شيء أو شخص يقف في طريقها؛ فزمري قتل الملك أيلة وكل بيت بعشا أبيه في أسبوع واحد، وليس ذلك فقط، بل كان الأسبوع كافيًا ليخرج عنه التقرير الإلهي «وَسَيْرِهِ فِي طَرِيقِ يَرُبْعَامَ، وَمِنْ أَجْلِ خَطِيَّتِهِ الَّتِي عَمِلَ بِجَعْلِهِ إِسْرَائِيلَ يُخْطِئُ». فماذا لو كان ملك سنين على إسرائيل؟ إنه من رحمة الرب أن يقطع الأشرار من الأرض «وَجْهُ الرَّبِّ ضِدُّ عَامِلِي الشَّرِّ لِيَقْطَعَ مِنَ الأَرْضِ ذِكْرَهُمْ» (مزمور٣٤: ١٦).
من يأخذ لنفسه شيئًا بغير حق
«حَجَلَةٌ (الحجلة: من الطيور) تَحْضُنُ مَا لَمْ تَبِضْ مُحَصِّلُ الْغِنَى بِغَيْرِ حَقّ. فِي نِصْفِ أَيَّامِهِ يَتْرُكُهُ وَفِي آخِرَتِهِ يَكُونُ أَحْمَقَ!» (إرميا١٧: ١١)، وهذا ينطبق على كل أشكال المكاسب وليس المادية منها فقط.
من يربح شيئًا ويخسر نفسه
وضع زمري نهاية مأساوية لحياته؛ فهو واحد من بضعة أشخاص في الكتاب ماتوا منتحرين، منهم: أبيمالك بن جدعون (قضاة ٩: ٥٤)، شاول بن قيس (١صموئيل٣١)، وأخيتوفل (٢صموئيل١٧)، ويهوذا الإسخريوطي (متى٢٧)؛ وكانوا كلهم أشرار. أنهوا حياتهم بيديهم بدل أن يتوبوا عن خطاياهم.
أهكذا يمكن لإنسان أن يعيش لأجل نفسه حتى يهلكها بيديه في النهاية! قال المُعَلم «لأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ، وَأَهْلَكَ نَفْسَهُ أَوْ خَسِرَهَا؟» (لوقا٩: ٢٥).
عندما تكون الحياة معلَّقه على شيء ما، إن ضاع هذا الشيء ضاعت الحياة، فلماذا العيش بعد؟!
لذا الدرس لنا يا صديقي، لنبني حياتنا على ما هو حقيقي وصحيح وباقٍ!
صلِّ معي إن شئت:
سيدي يا من وهبتني حياتك، كيف لا تهبني الأفضل؟ حتمًا أنت تفعل.
أعطني قناعة بما أعطيتني، واخفض كل تعالي في قلبي، واجعل كل عالٍ ينحني أمام عينيَّ.
احفظني من جموح شهوات الامتلاك والارتفاع.
بدِّل طموحي وارفعه لفوق للسماويات للباقيات، واحفظني متضعًا حتى ترفعني في وقتك وبأسوبك.