“أَرْخِبُّس” اسم يوناني معناه “سَيِّد الخيل”. وكان عاملاً في خدمة الرب. وقد أرسل إليه الرسول بولس تحياته في رسالته إلى فليمون «بُولُسُ... وَتِيمُوثَاوُسُ... إِلَى فِلِيمُونَ... وَإِلَى أَبْفِيَّةَ... وَأَرْخِبُّسَ الْمُتَجَنِّدِ مَعَنَا، وَإِلَى الْكَنِيسَةِ الَّتِي فِي بَيْتِكَ. نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ اللهِ أَبِينَا وَالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ» (فليمون١-٣). وقد ميَّزه الرسول بولس بالتفاتة خاصة، وذلك في ختام رسالته إلى مؤمني كولوسي، ليُوصيه أن ينظر إلى خدمته لكي يُتَمِّمَها (كولوسي٤: ١٧).
ويُرجَّح مِن ارتباط اسم “أَرْخِبُّس” بفِلِيمُونَ وأَبْفِيَّةَ (فليمون٢)، أنه كان ابنًا لفِلِيمُون، ولكننا لا نستطيع أن نتيقن من جهة ذلك. لكننا نعلم أنه كان مشتركًا فعليًا في الحرب الروحية، وفي خدمة الرب، والرسول يُشرّفه بوصفه: «أَرْخِبُّسَ الْمُتَجَنِّدِ مَعَنَا» (فليمون٢). ويا له من لقب شريف يدل على شركته القوية في مجال الخدمة المسيحية! فالرسول بولس هنا يراه جنديًا صالحًا ليسوع المسيح، متأهبًا لحمل السلاح، مُستعدًا لتحمُّل المشقات، ليُتمِّم مقاصد قائده الأعلى؛ الرب يسوع المسيح. ومن مدح الرسول له في مستهل رسالة فليمون، نستطيع أن نستنتج أنه كان كذلك بالفعل، ولزمان ليس بقليل.
وكل مَنْ يخدم الرب يسوع عليه أن يتميَّز بصفات الجندي في خضم المعركة (٢تيموثاوس٢: ٣، ٤). إنه في أرض المعركة، ويواجه العدو الذي لا يعرف الكلل. إنها حرب مستمرة لا تتخللها هدنة. ولذلك على الجندي “ألا يَرْتَبِكُ بِأَعْمَالِ الْحَيَاةِ”. ليس المقصود بذلك أننا لا نعتني بأعمال الحياة، أو أن الرسول بولس يُوصينا ويُلزمنا بضرورة التخلي عن أعمالنا وحاجاتنا الأرضية. ففي مواضع أخرى في الكتاب يدحض أفكارًا كهذه، ويعطينا تعليمًا محددًا بأن نعمل بأيدينا لنوفر احتياجاتنا بكل أمانة. لقد أوصى مرة قائلاً: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَغِلَ فَلاَ يَأْكُلْ أَيْضًا» (٢تسالونيكي٣: ١٠)، وأمكنه أن يقول عن نفسه «حَاجَاتِي وَحَاجَاتِ الَّذِينَ مَعِي خَدَمَتْهَا هَاتَانِ الْيَدَانِ» (أعمال٢٠: ٣٤). ولكن المقصود هو أن «لا يَرْتَبِكُ» وهو يعملِ؛ «فَاشْتَرِكْ أَنْتَ فِي احْتِمَالِ الْمَشَقَّاتِ كَجُنْدِيٍّ صَالِحٍ لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ. لَيْسَ أَحَدٌ وَهُوَ يَتَجَنَّدُ يَرْتَبِكُ بِأَعْمَالِ الْحَيَاةِ لِكَيْ يُرْضِيَ مَنْ جَنَّدَهُ» (٢تيموثاوس٢: ٣، ٤). فعلى الجندي ألا يسمح لأمور الحياة العادية بأن تُصبح هدف حياته، فيعيش فقط بقصد الحصول على الطعام واللباس والمال، ليأخذ هذا كل وقتنا، ويستهلك طاقاتنا، ويستنفذ تفكيرنا فنقع في هذه الشباك، ولا نعُد قادرين على تتميم إرادة الرب. ولكن الجندي الصالح ليسوع المسيح هو مَنْ يسعى، لا لكي يُسرّ نفسه أو يُسرّ الآخرين، لكن أولاً وقبل كل شيء أن يُسرّ ذلك الذي اختاره لأن يكون جنديًا، وأن يُظهِر الولاء الخالص، لذاك الذي اختارنا جنودًا تحت قيادته. إن خدمة الرب يسوع هي التي ينبغي، بالحري، أن تمثل الأولوية وتحتل الصدارة، فيما تكون أمور هذه الحياة في المؤخرة. وهذا يتحقق فقط إن كنا أقوياء بالنعمة التي في المسيح يسوع.
والجندي الحقيقي يجب أن يتميز بالولاء والخضوع والطاعة المطلقة والمحبة الخالصة لقائده. وفي خدمته يجب أن يبقى متأهّبًا لتلَّقي أوامر قائده. إن الرب هو الذي جَنَّدَ المؤمن. ومحبتنا له يجب أن تساعدنا على عدم التعلّق بأمور هذا العالم.
فالجندي الحقيقي هو مِلك سَيِّده ورئيسه، وليس له إلا غرض واحد، وهو أن «يُرْضِيَ مَنْ جَنَّدَهُ». هذا هو في الواقع غرضنا الأول؛ إرضاء ذاك الذي صار له كل الحق علينا بإدخاله إيانا في خدمته، تلك الخدمة التي ليست تنفيذ واجب ناموسي، بل خدمة طاعة ومحبة. فالجندي الصالح هنا هو ذلك الشخص الذي ليس له أي غرض سوى إرضاء رئيسه المحبوب الذي يشتاق لأن يُرضيه، عارفًا حقه عليه. والمقصود هو علاقات الطاعة والمحبة بين الجندي ورئيسه، تلك العلاقات التي بدونها لا يمكن الحصول على النصرة. هذا ما يسميه الوحي “جُنْدِيًّا صَالِحًا لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ”.
ودعونا نتذكر البطل بولس الرسول، الذي قال في يومه: «الرُّوحَ الْقُدُسَ يَشْهَدُ فِي كُلِّ مَدِينَةٍ قَائِلاً: إِنَّ وُثُقًا وَشَدَائِدَ تَنْتَظِرُنِي. وَلَكِنَّنِي لَسْتُ أَحْتَسِبُ لِشَيْءٍ، وَلاَ نَفْسِي ثَمِينَةٌ عِنْدِي، حَتَّى أُتَمِّمَ بِفَرَحٍ سَعْيِي وَالْخِدْمَةَ الَّتِي أَخَذْتُهَا مِنَ الرَّبِّ يَسُوعَ، لأَشْهَدَ بِبِشَارَةِ نِعْمَةِ اللهِ» (أعمال٢٠: ٢٣، ٢٤).
ولكن، ويا للأسف، إن “أَرْخِبُّس” الذي كان يومًا من أمثال واحد كبولس الرسول، الذي لم تكن نفسه ثمينة عنده، حتى يُتمِّم بفرح سعيه، نسمع رنة الأسى في صوت الرسول بولس نفسه، وهو يقول عنه: «قُولُوا لأَرْخِبُّسَ: انْظُرْ الَى الْخِدْمَةِ الَّتِي قَبِلْتَهَا فِي الرَّبِّ لِكَيْ تُتَمِّمَهَا» (كولوسي٤: ١٧).
وليس لدينا ما يكفي لاستنتاج الأسباب التي أدت إلى تراجع “أَرْخِبُّس” وتقاعسه عن خدمته. ربما كان قد فشل من قلة النتائج، أو أُحبط من مفشلات خارجية بسبب الضيق والاضطهاد، أو ضُرب بالشعور بالنقص وعدم الكفاية، أو رأى الخدمة صغيرة، أو سمع كلامًا ثبَّط من عزيمته. تعدَّدت الأسباب والنتيجة أنه توقَّف عن خدمته! خدمته التي أخذها من الرب الذي هو مصدر المواهب الروحية لأجل دعوة الخطاة وبنيان القديسين. فكان“أَرْخِبُّس” يحتاج أن يُحرَّض ألا ينسى المسؤولية التي تقابل هذا الامتياز العظيم؛ امتياز خدمة الرب يسوع المسيح، ورعاية قطيع الرب.
ونلاحظ أن القديسين في كولوسي هم الذين يُحرَّضون لكي يُنبهوا “أَرْخِبُّس”. فالخدام ليسوا طبقة أعلى من بقية إخوتهم. ويمكن إذا تراخى الخادم في خدمته للرب أن يساعده الإخوة بنصائحهم، لأننا جميعًا جسد واحد، ونحتاج إلى بعضنا البعض في تتمِّيم جميع واجباتنا من نحو الرب.
ابني وصديقي وشريكي في الخدمة: لقد أُعطى لكل واحد منا خدمة معينة من الرب، وسيأتي اليوم الذي نُعطي فيه حسابًا عما فعلناه. فلنأخذ كلمات التحذير والنصح التي وُجِّهت إلى “أَرْخِبُّس” على أنها موجَّهة إلينا. هل أعطاك الرب خدمة لتتميمها؟ إذًا، فلتحرص على تتميمها، مهما كانت تبدو لك غير مهمة. فعدم إتمام الخدمة معناه الكسل، وهذا يفتح الباب للانحدار والانهيار الروحي. ولا شيء يمكن أن يحفظنا إلا “النعمة” «فَتَقَوَّ أَنْتَ يَا ابْنِي بِالنِّعْمَةِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ» (٢تيموثاوس٢: ١)، «النِّعْمَةُ مَعَكُمْ. آمِينَ» (كولوسي٤: ١٨).