التواضع، ما بين السعي له والهروب منه، أو التصنع والافتعال، هل هو صفة وتوجُّه؟ هل هو وصية صعبة؟ جهاد واجتهاد؟ إننا نقضي العمر في كبرياء وفلسفة البحث عن التواضع حتى نُقنع أنفسنا بحلول وسط ومسميات وألفاظ وابتسامات وردود ناعمة، ونعيش ما بين الحقيقة والوهم، الواقع والخيال! هل حاولت أن تتواضع؟ هل سمعت القول اجتهد لتصير متواضعًا؟ إنه غاية الكبرياء!! ففي كل محاولة نعتمد فيها على قدراتنا ومعرفتنا، طاقاتنا وإمكانياتنا، وتوجهاتنا، لنتواضع نكون مع الأسف بعيدين كل البعد عن التواضع. التواضع لا يعني انعدام الثقة، ولا الجهل بالإمكانيات الشخصية، كما إنه لا يعني الاستسلام للفشل، وهو ليس شعور انهزامي مُحبِط؛ لكنه أساس كل نجاح وتقدم ومعرفة وقوة.
التواضع قَناعة. نعم فهو اقتناع وقناعة داخلية، اعتناق وإيمان ويقين بأنني لست قادرًا وليست فيَّ قوة، ولست أعلم ماذا أفعل. إنه ثقة داخلية عميقة بالضعف. إننا نشعر بالتواضع العميق بعد أن نكتشف سقوطنا في الخطية. عندما نكتشف وكأننا قادرون على حماية أنفسنا دون ذلل، وقتها نعرف إننا كنا مخطئين في تقييم ذواتنا؛ فنعرف حجمنا الحقيقي. وعادة عندما نعرف إمكانياتنا وهشاشة إرادتنا ورداءة قلوبنا، وسطحية عقولنا، وضآلة إمكانياتنا، وعدم قدرتنا على مواجهة الأمور؛ يصاحب تلك الأمور شعور داخلي عميق بالتواضع. ووقتها لا يتطلب الوصول لذلك الشعور الجهد والكد، كما لا يحتاج إلى قرارات وتعهّدات، إنه قناعة داخلية تلقائية بكل بساطة.
إن الجهد والإرادة والمثابرة ليست في تَصَنُع شكل ومظهر التواضع، لكنه في البقاء على ما تعلمناه من دروس وسقطات واختبارات وكبوات الماضي. قد يعيش المرء متواضعًا في الشكل والمظهر دون الجوهر، فقد يصل التواضع الكاذب إلى كبرياء عنيف، فمحاولاتنا هذه تنمّ عن كبرياء داخلي متأصل. إن واجبنا أن نجتهد في إبقاء هذا الشعور الداخلي بحجمنا الحقيقي نصب عيوننا؛ فلا نعود نضع ذواتنا في المحكَّات التي تهددنا وتزيد شعورنا بالغرور والثقة الزائفة بالنفس؛ الذي بدوره يبعدنا عن التواضع. إن كل من يعرف نفسه يتضع.
إن معرفتي واقتناعي بضعفي يجعلني أسلك بتواضع حقيقي مع إخوتي، فعندما أشعر بإنني فوق التجربة ولن أُصاب من سهام العدو يدفعني ذلك الشعور إلى الكبرياء، أو على الأقل سينتابني شعور بوضاعة وضعف ودونية مستوى أخي الذي أُخذ بذلَّة ما، ولكن عندما أدخل في نفس الشَرَك أعرف أن قلبي وإرادتي هما من نفس النوع، وأتعلَّم أن أتواضع وأترفَّق بمن حولي بدلاً من أن أمسك لهم العصا طائحًا بهم. وبعمق السقطة يكون عمق الإتضاع. نعم دعني أكرر: إن كل من يعرف نفسه يتضع.
هل تعرف إنه، ودون أسباب، قد تتغير بعض التوازنات الكيميائية داخلك فتصير شخصًا آخر في خلال دقائق، رغم كل إمكانياتك وملكاتك وملكياتك؟ هل تعلم أن هناك الملايين من البشر فقدوا كل عمادهم بين ليلة وضُحاها؟ أيًا كان هذا العماد: مال أو ابن أو زوج أو بيت أو أمل أو حتى جمال. هل تعلم إنك لست قادرًا على ضمان إخراج النَفَس الذي تنفسته لتوك الآن؟ إنها أمور تدفعنا للتواضع، ولكن أين نحن من ذلك؟
إن الهروب من أمام الشهوات الشبابية يساوي التواضع. فقبل الكسر الكبرياء، والقوة تُزامن السقوط. ففي كل مرة تشعر بأنك قادر على مواجهة التجربة بإرادتك وطاقتك الفردية، تكون قد أعددت نفسك للسقوط فيها، ألا تذكر قول الرسول بولس «أَنِّي لَسْتُ أَعْرِفُ مَا أَنَا أَفْعَلُهُ، إِذْ لَسْتُ أَفْعَلُ مَا أُرِيدُهُ، بَلْ مَا أُبْغِضُهُ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ.» إنها الإرادة الضعيفة التي لا تصل بنا إلى ما نريد بل إلى ما يريد الجسد الذي نعيش فيه.
مبدأ الزرع والحصاد يدفعنا لنسلك بالتواضع. فبمعرفتي إنني سأحصد من نفس نوع زرعي يجعلني أتحرك بحذر وتواضع شديد.
إنها جميعًا بواعث مهمة تجعلنا نتواضع تلقائيًا. وبالطبع، وفوق الكل، عندما ننظر لله وقدرته وقوته سنعيش ونتحرك تلقائيًا بتواضع حقيقي. فمن أنا؟ دودة؟ تراب؟ بخار؟ نفخة؟ حلم؟ عندما أُقارن نفسي بمن أقل مني قد يُصيبني الغرور والكبرياء والتعالي والشعور بالذات؛ فتعلو الأنا ويخبو التواضع، ولكن ما هو الشعور عندما تنظر لمن هو أكبر منك في الإمكانيات والملكات والمواهب؟ وكم وكم يكون حال تواضعنا عندما ننظر لملك الملوك ورب الأرباب، الخالق العظيم، المسيطر والمهيمن، الكامل، الرب والإله الذي له كل المجد؟ ولكن دعونا لا نغفل ذاك الذي تواضع آخذًا صورة عبد ليخلصنا، ذاك الذي أحبنا فتواضع حتى الموت موت الصليب. ألا يدفعنا ذلك المتواضع الأعظم أن نعيش له حياة التواضع الحقيقية؟
شادي جوهر