في أول مرة سافرت فيها لأستراليا، تلك القارة الخضراء الجميلة، حدث معي موقف لن أنساه. ففي أثناء سيري مع أحد الأحباء في سيارته، رأيت بقعة كبيرة وجميلة جدًا مملوءة بزهور متنوعة غاية في الروعة. ففي الحال طلبت من الأخ الذي كان يصطحبني بسيارته أن ينزلني لأجلس فيها قليلاً، وذلك لحبي الشديد للخضرة والهدوء معًا. لكن الأخ أعتذر برقة قائلاً لي: عزيزي، إنها ليست حديقة... إنها مدافن!
ياه!! لقد خدعني المنظر الخارجي الجميل والورود الخلابة، وطبعًا لم أكن أدري ما كانت تخفيه الزهور من تحتها!
لذلك نجد الرب يسوع المسيح في حديثه الشهير في موعظة الجبل، يوجِّه الأنظار للداخل لا الخارج، الجوهر لا المظهر. فطوَّب الأتقياء الأنقياء في القلب، وليس من لهم جمال المظهر في الخارج فقط!
أولاً: لماذا يهتم إلهنا بالقلب أكثر من المظهر؟
١.نحن كبشر غالبًا نهتم وننجذب للخارج نظرًا لتحكم الحواس فينا، لكن الله ليس كذلك «لأَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْظُرُ إِلَى الْعَيْنَيْنِ، وَأَمَّا الرَّبُّ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى الْقَلْبِ» (١صموئيل١٦: ٧).
٢. المظهر خدَّاع في معظم الأحيان!! فالسراب يظهر بأنه كالمياه الكثيرة، وفي حقيقته هو لا شيء! قديمًا جاءوا الجبعونين ليشوع ليقطعوا عهدًا معه، وخدعوه بملابسهم البالية وبالخبز اليابس الذي معهم قائلين له إنهم جاءوا من أماكن بعيدة، وفي الواقع كانوا ساكنين بجواره!
٣. القلب منه مخارج الحياة: يقول الحكيم «فَوْقَ كُلِّ تَحَفُّظٍ احْفَظْ قَلْبَكَ لأَنَّ مِنْهُ مَخَارِجَ الْحَيَاةِ» (أمثال٤: ٢٣). فالقلب كعضو في جسم الإنسان هو فعليًا المسؤول عن دورة الدم وجريانه للحياة في الإنسان. كما أنه يُقصد به أعماق وفكر وإرادة الإنسان ومنه كل القرارات!! لذلك قيل عن دانيآل أنه جعل في قلبه أنه لا يتنجس.
٤. لأنه مصدر الشرور في الإنسان: ولأنه كذلك، فهو يحتاج إلى خلاص وتطهير دم المسيح «لأَنَّهُ مِنَ الدَّاخِلِ مِنْ قُلُوبِ النَّاسِ تَخْرُجُ الأَفْكَارُ الشِّرِّيرَةُ: زِنىً فِسْقٌ قَتْلٌ» (مرقس٧: ٢١).
ثانيًا: كيف أحصل على هذا القلب النقي؟
بالتأكيد لا يتكلم المسيح عن عضلة القلب التي في أجسامنا، بل عن كيان الإنسان الداخلي من فكر وإرادة وطبيعة شريرة وُلدنا بها.
١. اعرف حقيقة قلبك: يظن الكثيرين أن قلبهم أبيض! وقد تسمع الواحد يقول إنه صحيح يعمل كذا أو كذا لكن قلبي أبيض! لكن الله الخبير يقول «اَلْقَلْبُ أَخْدَعُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ نَجِيسٌ مَنْ يَعْرِفُهُ! أَنَا الرَّبُّ فَاحِصُ الْقَلْبِ مُخْتَبِرُ الْكُلَى» (إرميا١٧: ٩).
٢. اطلب من الرب: رائع أن أشعر بحالتي وحاجتي للرب أن يغيِّر كياني الداخلي والمشار إليه بالقلب، كما صلى داود قائلاً «اخْتَبِرْنِي يَا اللهُ وَاعْرِفْ قَلْبِي. امْتَحِنِّي وَاعْرِفْ أَفْكَارِي« (مزمور١٣٩: ٢٣) وأيضًا «قَلْباً نَقِيًّا اخْلُقْ فِيَّ يَا اللهُ وَرُوحًا مُسْتَقِيمًا جَدِّدْ فِي دَاخِلِي» (مزمور٥١: ١٠).
٣. الاغتسال والتطهير: إن دم الرب يسوع، هو الشيء الوحيد، الذي يطهّر القلب وأعماق الإنسان الملوَّث بالخطية. «فَكَمْ بِالْحَرِيِّ يَكُونُ دَمُ الْمَسِيحِ، يُطَهِّرُ ضَمَائِرَكُمْ مِنْ أَعْمَالٍ مَيِّتَةٍ لِتَخْدِمُوا اللهَ الْحَيَّ» (عبرانيين٩: ١٤). هل تصلي معي ما طلبه داود من الرب قائلاً «طَهِّرْنِي بِالزُوّفَا فَأَطْهُرَ. اغْسِلْنِي فَأَبْيَضَّ أَكْثَرَ مِنَ الثَّلْجِ» )مزمور٥١: ٧).
٤. نوال الطبيعة الإلهية الجديدة: فعمل المسيح ليس فقط يطهِّر الأعماق فحسب، بل يعطي كل من يؤمن به طبيعة إلهية تتوافق مع الله بالشركة من جهة، وتعيش النقاوة من جهة أخرى «شُرَكَاءَ الطَّبِيعَةِ الإِلَهِيَّةِ، هَارِبِينَ مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي فِي الْعَالَمِ بِالشَّهْوَةِ» (٢بطرس١: ٤).
ثالًثا: ما المقصود بأنهم يعاينون الله؟
معروف لنا أن الله روح، ولا يمكن أن نراه بعيوننا الحرفية، لكن بعيون إيماننا الداخلية، ولذا لا بد أن يكون القلب نقيًا مجدَّدًا لكي يرى الله بمعنى:
١. أرى الله في كلمته: «اَلَّذِي عِنْدَهُ وَصَايَايَ وَيَحْفَظُهَا فَهُوَ الَّذِي يُحِبُّنِي وَالَّذِي يُحِبُّنِي يُحِبُّهُ أَبِي وَأَنَا أُحِبُّهُ وَأُظْهِرُ لَهُ ذَاتِي» (يوحنا١٤: ٢١).
٢. يساكن الله: «مَنْ يَصْعَدُ إِلَى جَبَلِ الرَّبِّ وَمَنْ يَقُومُ فِي مَوْضِعِ قُدْسِهِ؟ اَلطَّاهِرُ الْيَدَيْنِ وَالنَّقِيُّ الْقَلْبِ» (مزمور٢٤: ٣).
٣. رؤية الله في كل الظروف: قيل عن موسى «ِبالإِيمَانِ تَرَكَ مِصْرَ غَيْرَ خَائِفٍ مِنْ غَضَبِ الْمَلِكِ، لأَنَّهُ تَشَدَّدَ، كَأَنَّهُ يَرَى مَنْ لاَ يُرَى» (عبرانيين١١: ٢٧).
٤. في الشركة والعلاقة الروحية: «أمَّا أَنَا فَبِالْبِرِّ أَنْظُرُ وَجْهَكَ. أَشْبَعُ إِذَا اسْتَيْقَظْتُ بِشَبَهِكَ» (مزمور١٧: ١٥).
٥. التمتع بالرب طوال الأبدية: فكل من اغتسل بدم المسيح، ونال الطبيعة الإلهية، له امتياز مساكنة الرب في الأبدية والتمتع بوجهه إلى الأبد «وَهُمْ سَيَنْظُرُونَ وَجْهَهُ، وَاسْمُهُ عَلَى جِبَاهِهِمْ» (رؤيا٢٢: ٤).
عزيزي: هل نلت هذا القلب النقي الجديد بالولادة الجديدة ونوال الطبيعة الإلهية؟ إن هذا مقدَّم لك الآن مجانًا بالإيمان بالمسيح يسوع. كم أشتاق من كل قلبي أن يمتّع الرب كل واحد من أولاد الله بالقلب والكيان الداخلي النقي، وهذا يأتي بالشركة اليومية مع الرب يسوع وذلك من خلال كلمته والصلاة. وتلقائيًا تتنقى قلوبنا وتغتسل أعماقنا ويتم فينا المكتوب «طوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللّه».