من الهام جدًا لأي قائد أن يجيد اختيار معاونيه، سواء كانوا تابعين مخلصين ينشرون دعوته، أو وزراء أكفاء يعهد لهم بالمناصب لمساعدته. وكم من قادة أساءوا اختيار مساعديهم، مما أوقعهم في وابل من المشاكل، وأثَّر بشكل كبير على مصداقيتهم، وعلى قبول الناس لدعوتهم.
ولأن المسيح الإنسان لم يكن فقط معلّمًا لتلاميذه، ولكنه كان قائدًا بكل ما تحمله الكلمة، فكانت لديه فلسفة في تعامله مع تلاميذه طوال أكثر من ثلاث سنوات، لدرجة أنه قضى معهم أضعاف الوقت الذي كان يقضيه في وعظ وتعليم الجموع، أو حتى في مجادلة الكتبة والفريسيين.
والحقيقة أن من يتأمل علاقة المسيح بتلاميذه يكتشف أنها أعمق بكثير من مجرد علاقة قائد بأتباعه، ويزداد هذا الأمر أهمية، عندما نرى نتائج هذه العلاقة، والتي حوَّلت مجموعة من البسطاء والصيادين، إلى عظماء مؤثّرين، قيل عنهم أنهم «فَتَنُوا الْمَسْكُونَةَ» (أعمال١٧: ٦)، وهم من نشروا المسيحية في أرجاء العالم في بضع سنوات، بدون أموال، أو سيوف، أو وسائل تواصل اجتماعي!!
١- أعجب Interview
أول خطوة من تعامل المسيح مع تلاميذه ظهرت من خلال طريقة اختياره لهم؛ فالبعض تقابل معهم فرديًا أولاً والبعض جماعيًا؛ البعض ذهب إليه المسيح في مكان عمله، والبعض الآخر تم استدعائه إليه.
فمثلاً نقرأ في الإصحاح الأول من إنجيل يوحنا أن المسيح تقابل مع أربعة من تلاميذه فرديًا، وهي لم تكن مثل أي مقابلة عمل Interview يجريها المشرف عليه Supervisor ويُلقي فيها أسئلته الموحَّدة الصمَّاء: ما هي مهاراتك؟ أو ماذا تريد دخلاً لك؟ أو أين ترى نفسك بعد خمس سنوات؟!
لكن من خلال هذه المقابلات، جرى بين المسيح وبين تلاميذه المستقبليين، حوارًا رائعًا عنه وعنهم، وشرح فيه أولوياته، وأهم مبادئه، وطريقة عمله، بل وشكل مستقبلهم المتوقَّع تحت قيادته.
السؤال لأندراوس:
أول هؤلاء الأربعة هو أندراوس؛ وهو واحد من تلاميذ يوحنا المعمدان الذين سمعوا شهادته: «هُوَذَا حَمَلُ اللهِ! فَسَمِعَهُ التِّلْمِيذَانِ يَتَكَلَّمُ، فَتَبِعَا يَسُوعَ» (يوحنا١: ٣٦، ٣٧، ٤٠). ولم تُغضِب هذه التبعية المعمدان، لأنه لا يتنافس مع المسيح على جذب التلاميذ، وكان يعرف هويته ودوره كمجرد مهيء لطريق المسيح، وكان شعاره الذي عاشه باقتناع: «يَنْبَغِي أَنَّ ذلِكَ (المسيح) يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا (يوحنا) أَنْقُصُ» (يوحنا٣: ٣٠).
وأثناء تبعية التلميذين نقرأ «فَالْتَفَتَ يَسُوعُ وَنَظَرَهُمَا يَتْبَعَانِ، فَقَالَ لَهُمَا: مَاذَا تَطْلُبَانِ؟» وهو سؤال غير متوقع منه، خاصةً وهو في بداية تكوين فريقه، وليس لديه بعد العدد الكافي من التلاميذ، وأي قائد مكانه سيعرض لهم مزايا اتّباعه، بدلاً من أن يفحص لهم نوايا قلوبهم!!
وحسنًا ردَّ أندراوس ومن معه (يوحنا بن زبدي غالبًا) على سؤال المسيح: «رَبِّي، الَّذِي تَفْسِيرُهُ: يَا مُعَلِّمُ، أَيْنَ تَمْكُثُ؟ فَقَالَ لَهُمَا: تَعَالَيَا وَانْظُرَا. فَأَتَيَا وَنَظَرَا أَيْنَ كَانَ يَمْكُثُ، وَمَكَثَا عِنْدَهُ ذلِكَ الْيَوْمَ. وَكَانَ نَحْوَ السَّاعَةِ الْعَاشِرَةِ» (يوحنا١٠: ٣٨، ٣٩)، والساعة العاشرة يهوديًا، توازي الرابعة بعد الظهر حاليًا.
ودليلاً على أصالة معدن أندراوس، أنه لم يكتم الشهادة داخله، لكنه أتى للمسيح بأقرب من له، ليتمتع بما تمتع به وسبق أن «نظره»، فنقرأ «هذَا وَجَدَ أَوَّلاً أَخَاهُ سِمْعَانَ، فَقَالَ لَهُ: قَدْ وَجَدْنَا مَسِيَّا الَّذِي تَفْسِيرُهُ: الْمَسِيحُ. فَجَاءَ بِهِ إِلَى يَسُوعَ» (يوحنا١: ٤١)، وهو أمر حميد جدًا في أندراوس، تحوَّل إلى عادة له.
فأندراوس من أتى مرة بالفتى الذي كان معه الخمس خبزات والسمكتين إلى المسيح (يوحنا٦: ٨)، وهو أيضًا من أتى بالأناس اليونانيين إلى المسيح (يوحنا١٢: ٢٠-٢٢). ونحن نحتاج إلى أندراوسيين كُثُر في أيامنا الحالية؛ قد يختفون من المشهد، ولكن يوصلون الناس بأريحية للمسيح.
ما أعجبك أيها المسيح القائد!! لم تعد تلاميذك بأراضي وسبايا وممتلكات... ولم ترغِّبهم بسلطة ومتعة وملذات... ولكنك قائد نزيه وشريف... لا تبحث عن عدد Quantity من التلاميذ يتبعوك ويهتفوا باسمك... ولكنك تطلب نوعية Quality منهم يمكثوا معك... ويحبوك... ويطيعوك.
التنبؤ لسمعان:
ولما وصَّل أندراوس أخاه بالمسيح، نقرأ «فَنَظَرَ إِلَيْهِ يَسُوعُ وَقَالَ: أَنْتَ سِمْعَانُ بْنُ يُونَا. أَنْتَ تُدْعَى صَفَا الَّذِي تَفْسِيرُهُ: بُطْرُسُ» (يوحنا١: ٤٢)، فالمسيح لم يسأل سمعان مثل أخيه، لكنه فاجأه بتغيير اسمه إلى صفا (بالأرامية)، أو بطرس (باليونانية)، وكلاهما يعني صخرة، وهو أمر عجيب جدًا!!
ومن يقرأ الأناجيل، سيكتشف أن صفات شخصية سمعان أبعد ما يكون عن صفات الصخرة؛ حيث القوة والمتانة والثبات؛ فهو شخص حمراوي سريع الانفعال، وأغلب تصرفاته مندفعة ومتهورة، ويفكّر في الشيء بعد أن يقوله، والفعل بعد أن يفعله، وهذا أوقعه في مشاكل كثيرة.
فسمعان هو من انتهر المسيح - عندما تكلم عن الصليب - مندفعًا: «حَاشَاكَ يَارَبُّ! لاَ يَكُونُ لَكَ هذَا!» (متى١٦: ٢٢)، وسمعان من نراه في جثسيماني متهورًا «ثُمَّ إِنَّ سِمْعَانَ بُطْرُسَ كَانَ مَعَهُ سَيْفٌ، فَاسْتَلَّهُ وَضَرَبَ عَبْدَ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ، فَقَطَعَ أُذْنَهُ الْيُمْنَى» (يوحنا١٨: ١٠)، وسمعان من قال للمسيح مُتحمسًا: «وَإِنْ شَكَّ فِيكَ الْجَمِيعُ فَأَنَا لاَ أَشُكُّ أَبَدًا» (متى٢٦: ٣٣).
كم من قادة غير حكماء!! يـحطّمون تلاميذهم بكلامهم السلبي.. فيذكرون فقط عيوبهم.. ويجزمون بفشلهم المحتوم في مستقبلهم.. أما أنت أيها المسيح القائد.. فتملأ آذان تلاميذك بالكلام الإيجابي.. وتأخذ المعيوب والمتهور والفاسد منهم.. وتتنبأ له بالصحة والثبات والاستخدام!!
عزيزي القارئ، دعني أكرر سؤال المسيح عليَّ وعليك:
ماذا تطلب؟ وهو سؤال صعب ولكنه هام جدًا لأنه يحدِّد شكل تبعيتنا للمسيح قائدنا، وفي نفس الوقت، دعني أطمأنك - وأطمأن نفسي - أن قائدنا ليس كبقية القادة، لكنه يعرف كيف يتعامل مع عيوبنا ومشاكلنا، ويستطيع أن يجعلها هي بذاتها نقطة قوتنا.