ذُكرت في رسالة رومية، حيث أرسل لها الرسول بولس التحية قائلاً: «سَلِّمُوا عَلَى مَرْيَمَ الَّتِي تَعِبَتْ لأَجْلِنَا كَثِيرًا» (رومية١٦: ٦)، والواضح أنها تعبت من أجله في مكان ما قبل أن تنتقل إلى رومية، لأنه لم يكن هو قد زار رومية وقت كتابة هذه الرسالة. وتعبها هذا كان نابعًا من محبتها للرب وللمؤمنين، وهذا دليل إيمانها الحقيقي بالرب يسوع.
المحبة دائمًا مرتبطة بالعطاء والتعب والتضحية؛ فالله عندما أحبنا بَيَّنَ هذه المحبة بموت ابنه لأجلنا على الصليب (رومية٥: ٨)، والمسيح عندما أحب الكنيسة أسلم نفسه لأجلها (أفسس٥: ٢٥). ويربط بولس بين المحبة والتعب حيث يقول: «تعب محبتكم» (١تسالونيكي١: ٣). وقال الرب يسوع لبطرس، بعد أن رد نفسه: «أَتُحِبُّنِي؟ فَقَالَ لَهُ: “يَارَبُّ.. أَنْتَ تَعْرِفُ أَنِّي أُحِبُّكَ”. قَالَ لَهُ يَسُوعُ: “ارْعَ غَنَمِي”». والرعاية شيء ليس سهلاً، لكنه يحتاج إلى سهر الراعي لكي يلاحظ كل الغنم، وتعب لكي يقدم الطعام اللازم لهم، ويحميهم من الذئاب الخاطفة، وهكذا الرعاة في كنيسة الله (١بطرس٥: ١–٤).
الوضع الطبيعي للإنسان على الأرض هو التعب، فقال الرب الإله لآدم بعد دخول الخطية إلى العالم: «بِالتَّعَبِ تَأْكُلُ مِنْهَا كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكَ» (تكوين٣: ١٧)، وقال يعقوب: «مَشَقَّتِي وَتَعَبَ يَدَيَّ» (تكوين٣١: ٤٢)، وقال أيوب: «الإِنْسَانُ مَوْلُودُ الْمَرْأَةِ، قَلِيلُ الأَيَّامِ وَشَبْعَانُ تَعَبًا» (أيوب١٤: ١)، وقال موسى: «أَفْخَرُهَا تَعَبٌ وَبَلِيَّةٌ» (مزمور٩٠: ١٠).
وهناك ثلاثة أنواع من التعب:
تعب باطل:
وهذا يشمل كل تعب الحياة، من أجل الحصول على لقمة العيش، والتوسع في العمل والأملاك، وضياع الوقت والجهد في أمور فانية، قال سليمان: «فَعَظَّمْتُ عَمَلِي: بَنَيْتُ لِنَفْسِي بُيُوتًا، غَرَسْتُ لِنَفْسِي كُرُومًا. عَمِلْتُ لِنَفْسِي جَنَّاتٍ وَفَرَادِيسَ. قَنَيْتُ عَبِيدًا وَجَوَارِيَ. وَكَانَتْ لِي أَيْضًا قِنْيَةُ بَقَرٍ وَغَنَمٍ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ الَّذِينَ كَانُوا فِي أُورُشَلِيمَ قَبْلِي. جَمَعْتُ لِنَفْسِي أَيْضًا فِضَّةً وَذَهَبًا»، لكنه قال بعد ذلك: «ثمَّ الْتَفَتُّ أَنَا إِلَى كُلِّ أَعْمَالِي الَّتِي عَمِلَتْهَا يَدَايَ، وَإِلَى التَّعَبِ الَّذِي تَعِبْتُهُ فِي عَمَلِهِ، فَإِذَا الْكُلُّ بَاطِلٌ وَقَبْضُ الرِّيحِ، وَلاَ مَنْفَعَةَ تَحْتَ الشَّمْسِ»، وعند موت الإنسان «لاَ يَأْخُذُ شَيْئًا مِنْ تَعَبِهِ فَيَذْهَبُ بِهِ فِي يَدِهِ» (جامعة٢: ٤-١١؛ ٥: ١٥).
تعب بسبب الخطية:
صلى يعبيص قائلا: «تَحْفَظُنِي مِنَ الشَّرِّ حَتَّى لاَ يُتْعِبُنِي» (١أخبار٤: ١٠)، وعندما أخطأ داود قال: «تَعِبْتُ فِي تَنَهُّدِي. أُعَوِّمُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ سَرِيرِي بِدُمُوعِي» (مزمور٦: ٦). أما الشرير فينطبق عليه القول: «حَفَرَهُ، فَسَقَطَ فِي الْهُوَّةِ الَّتِي صَنَعَ. يَرْجعُ تَعَبُهُ عَلَى رَأْسِهِ» (مزمور٧: ١٥، ١٦). ومن يذهب إلى السجون يدرك ما تفعله الخطية في النفوس من تعب وألم ووجع.
- تعب ليس باطلاً:
وهو التعب من أجل الرب، وليس باطلاً لأن له أجرة في السماء، فسوف يكافئ الرب على كل عمل، سواء كان صغيرًا أو كبيرًا، في العلن أو الخفاء، المهم يكون دافعة محبة المسيح والمؤمنين، وغرضه مجد الله.
مجالات التعب من أجل الرب كثيرة، سواء: خدمة الكلمة والتعليم (١تيموثاوس٥: ١٧)، خدمة الرعاية، الكرازة للخطاة، التدبير، خدمة الأعوان، خدمة مدارس الأحد لكي يعرف الأطفال الكتب المقدسة، إطعام الجياع (متى٢٥: ٣٥)، زيارات المرضى والمساجين (متى٢٥: ٣٦)، خدمة الصلاة مثل أبفراس (كولوسي٤: ١٢)، خدمة الضيافة (عبرانيين١٣: ٢)، مثل «بَيْتَ اسْتِفَانَاسَ الذين رَتَّبُوا أَنْفُسَهُمْ لِخِدْمَةِ الْقِدِّيسِينَ» (١كورنثوس١٦: ١٥).
والمثال الكامل للخادم التاعب هو الرب يسوع الذي سافر مسافة طويلة لكي يلتقي بالمرأة السامرية، وعندما «تَعِبَ مِنَ السَّفَرِ، جَلَسَ هكَذَا عَلَى الْبِئْرِ» (يوحنا٤: ٦)، وبعد يوم طويل من العمل دخل السفينة «كانَ هُوَ فِي الْمُؤَخَّرِ عَلَى وِسَادَةٍ نَائِمًا» (مرقس٤: ٣٨) من كثرة التعب.
تعب بولس الرسول في خدمة الرب أكثر من بقية الرسل (١كورنثوس١٥: ١٠)، وتكلم كثيرًا عن هذا الأمر: «فِي كُلِّ شَيْءٍ أَرَيْتُكُمْ أَنَّهُ هكَذَا يَنْبَغِي أَنَّكُمْ تَتْعَبُونَ وَتَعْضُدُونَ الضُّعَفَاءَ» (أعمال٢٠: ٣٥)، «فِي تَعَبٍ وَكَدٍّ» (٢كورنثوس١١: ٢٧؛ انظر أيضًا كولوسي١: ٢٩؛ ١تسالونيكي٢: ٩). وشجَّع المؤمنين على التعب من أجل الرب بالقول: «مُكْثِرِينَ فِي عَمَلِ الرَّبِّ كُلَّ حِينٍ، عَالِمِينَ أَنَّ تَعَبَكُمْ لَيْسَ بَاطِلاً فِي الرَّبِّ» (١كورنثوس١٥: ٥٨).
نجد في الكتاب المقدس بعض لوحات الشرف، مثل: أبطال داود (٢صموئيل٢٣)، وأبطال الإيمان (عبرانيين١١)، والعاملون من أجل الرب (رومية١٦)، حيث يسجِّل الرسول بولس بالروح القدس، أسماء بعض القديسين والقديسات، ويذكر بعض أعمالهم من أجل الرب.
لكن قريبًا جدًا سنقف أمام كرسي المسيح، وسيستعرض الرب أعمال كل المؤمنين، وسيكافئهم على كل خدمة عُملت من أجله بدافع المحبة له، وكان غرضها مجده هو فقط، حتى لو كأس ماء بارد من أجل اسمه.
نلاحظ أنه يذكر ٩ نساء في لوحة الشرف المذكورة في رومية١٦، وهذا يدل على مشاركتهن المثمرة في عمل الرب، ونفعهن المبارك للرب: فِيبِي، خَادِمَةُ الْكَنِيسَةِ الَّتِي فِي كَنْخَرِيَا، وكانت مُسَاعِدَةً لِكَثِيرِينَ وَلِلرسول بولس. بِرِيسْكِلاَّ الْعَامِلَة فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، وكان في بيتها كنيسة. مريم التاعبة كثيرًا. تَرِيفَيْنَا وَتَرِيفُوسَا التَّاعِبَتَيْنِ فِي الرَّبِّ. بَرْسِيسَ الْمَحْبُوبَةِ الَّتِي تَعِبَتْ كَثِيرًا فِي الرَّبِّ. أم رُوفُسَ، جُولِيَا، أخت نِيرِيُوسَ.
نلاحظ أنه يذكر عن تَرِيفَيْنَا وَتَرِيفُوسَا أنهما تَّاعِبَتَيْنِ فِي الرَّبِّ، بينما مَرْيَمَ تَعِبَتْ لأَجْلِنَا كَثِيرًا، بَرْسِيسَ الْمَحْبُوبَةِ تَعِبَتْ كَثِيرًا فِي الرَّبِّ، فهناك تعب، وهناك أيضًا تعب كثير. فهل نتعب فقط من أجل الرب والقديسين أم نتعب كثيرًا.
إن مريم التي تعبت كثيرًا من أجل الرسول بولس، سُجِّل اسمها في الكتاب المقدس، وقرأ قصتها ملايين من المؤمنين، وسوف تكافأ أمام كرسي المسيح.
يا ليتنا نتعب كثيرًا من أجل الرب ونخدم القديسين، فهذا التعب يلذّ لقلب المؤمن، والرب يرى كل شيء، ويسجِّل كل شيء (رؤيا٢: ٢، ٣)، ونتشجع «لأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَالِمٍ حَتَّى يَنْسَى عَمَلَكُمْ وَتَعَبَ الْمَحَبَّةِ الَّتِي أَظْهَرْتُمُوهَا نَحْوَ اسْمِهِ، إِذْ قَدْ خَدَمْتُمُ الْقِدِّيسِينَ وَتَخْدِمُونَهُمْ» (عبرانيين٦: ١٠)، وستكون الأجرة على مقدار التعب، كما هو مكتوب: «كُلَّ وَاحِدٍ سَيَأْخُذُ أُجْرَتَهُ بِحَسَبِ تَعَبِهِ» (١كورنثوس٣: ٨).