“قصة مدينتين” هي الرواية التاريخية الشهيرة للكاتب الإنجليزي المعروف “تشارلز ديكنز”. وتدور أحداث الرواية في مدينتين؛ لندن وباريس. وقد كُتِبَت هذه الرواية عام ١٨٥٩ لتُؤرخ لفترة قيام الثورة الفرنسية على الملكية، والأحداث التى تلت الثورة من الهجوم على سجن الباستيل. والرواية تُصوّر معاناة الطبقة العمالية الفرنسية، والحالة السيئة التي كان عليها الفلاحون الفرنسيون، تحت القمع المستبد والمستمر من قِبَل الأرستقراطية الفرنسية، في السنوات التي سبقت وأدت إلى اندلاع الثورة، ثم أعمال التخريب والعنف والوحشية التي قام بها الثوار تجاه الأرستقراطيين السابقين في السنوات الأولى من الثورة.
وفي الرواية نتقابل مع رجلين يُشبهان بعضهما البعض إلى حد كبير. الأول
هو“تشارلس دارناي”، المُنحَدر من أصول أرستقراطية فرنسية، والذي يقع ضحية للثورة العمياء، التي لم تميز بين الخير والشر، برغم شخصيته الطيبة. والشخصية الثانية هو “سيدني كارتون”، المحامي الإنجليزي. يقع الاثنان في غرام الفتاة
الجميلة “لوسي مانيت”. ويبوح
“سيدني”
لـــــ“لوسي” بحبه، ويطلب الزواج منها. ولكنها تُخبره في لطف وأدب شديد أنها تحترمه، ولكنها لا تُحبُّه، ولا تستطيع أن تقبل الزواج منه.
بكى من شدة التأثر، وطلب منها أن تحتفظ بهذا الاعتراف كسرٍّ بينهما؛ فوعدته.
تقبَّل الأمر، وتمنى لها حياة سعيدة مع مَن تُحبّ، ووعدها بأنه سيظل - طوال عمره - على استعداد أن يُضحي بحياته نيابة عنها، وعن جميع مَنْ تُحبُّهم الآن، ومَنْ سوف تُحبُّهم في المستقبل.
كانت “لوسي” تُحبُّ “تشارلس دارناي”، وعندما تقدَّم يطلبها، وافقت على الفور وتزوجته، وأنجبا طفلة جميلة.
وفي نهاية الرواية، يُلقى القبضُ
على“ تشارلس”، ويُوضع في زنزانة في سجن الباستيل الرهيب. وبعد تحقيقات واستجوابات مُرهقة، صدر حكم المحكمة بإعدامه بالمقصلة في اليوم التالي. زوجٌ وأبٌ سيذهب للإعدام في غضون أربع وعشرين ساعة، ليترك خلفه أرملة وحيدة وابنة يتيمة.
وهنا يظهر
“سيدني” - وهو يُشبِه في ملامحه
“تشارلس” - ويتسلَّل إلى السجن ليُطلقَ سراحَ غريمه السابق، ويرتدي ملابسه، ويبقى في الزنزانة في انتظار الموت عوضًا عنه. لقد قرَّر أن يمثّل دور “تشارلس دارناي”، ويُعدم مكانه، وذلك بسبب حبه لـ “لوسي”، وتحقيقًا لوعده لمَن أحبها، بأن يُضحي بحياته من أجلها، ومن أجل مَنْ تُحبُّ.
وبأوراق تحقيق الشخصية الخاصة بـ
“سيدني كارتون”، تمكن
“تشارلس دارناي” وزوجته “لوسي” وابنتهما الصغيرة مِن النجاة، والهروب إلى إنجلترا.
وداخل سجن الباستيل نلتقي بشخصيَّة نسائيَّة في طريقها إلى المقصلة، وهي في هلع رهيب. تقترب هذه السجينة من الشخص الذي ظنَّته“ تشارلس دارناي”، وتطلب منه أن يُشجِّعَها وهي في طريقها إلى الموت. وفجأة تُدرك أنَّ الشخصَ الواقف أمامها ليس“ تشارلس دارناي”. وهنا تتسع عيناها في ذهول، وتهمس في أذن“سيدني كارتون” قائلة: “وهل ستموت نيابة عنه؟
” فما كان من “سيدني” إلا أن ردَّ عليها مُحاولاً إسكاتها، قائلاً: “وبالنيابة عن زوجته وطفلته”.
وعند هذه اللحظة أمسكت هذه السَيِّدة بيَد الرجل الذي طلبت منه التشجيع منذ لحظات، وهي تقول: “أيسعُني أن أمسك بهذه اليد الجريئة أيها الغريب الكريم؟” لقد استمدت هذه المرأة قوة ودفئًا أمام برودة الموت، وتشدَّدت بمجرَّد فكرة الفداء البدليّ والبَدَلِيَّة العِقَابِيَّة، حتى لو لم تكن من أجلها.
وعندما قرأت “قصة مدينتين” تفكرت في “رَبِّي وإلهِي” الذي قَبِلَ - طائعًا مختارًا - أن يأخذ مكاني، إذ مات على الصليب، ليكون “مُخلِّصي وفاديَّ”، وأدّىَ عني عقوبة خطايايَّ «الْمَسِيح أَيْضًا تَأَلَّمَ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ أَجْلِ الْخَطَايَا، الْبَارُّ مِنْ أَجْلِ الأَثَمَةِ، لِكَيْ يُقَرِّبَنَا إِلَى اللهِ» (١بطرس٣: ١٨).
كيف يُمكنك أنت أن تتغيَّر لو علمت وأمنتَ بأن الرب يسوع المسيح قدَّم نفسه فداءً بدلاً منك أنت؟ هذا ما جاء الرب يسوع ليُقدِّمَه إلى الجميع. إن الرب يسوع بفدائه البدليِّ لن يعمل فقط على تحريرك من الشعور بالذنب، بل سيُجهِّزُك أيضًا بالقوة والشجاعة لمواجهة كل ظروف الحياة مهما كانت صعوبتها، وحتى لمواجهة الموت في شدة أهواله، كما حدث مع هذه السَيِّدة التي كانت في طريقها إلى الموت بالمقصلة.
إنني كنت، كخاطئ أثيم، وكعبد للخطية، أقف على حافة الهـلاك، محكومًا عليَّ بالعذاب الأبدي في بحيرة النار والكبريت، لأنال فيها بعدلٍ استحقاق ما فعلت (لوقا٢٣: ٤١). وهل ذلك لأجل خطية واحدة؟ كلا، بل لأجل خطايا كثيرة اقترفتها ضد قوانين الله الثابتة، ولأجل آثام وذنوب لا تُحصى ارتكبتها ضد الله. ولكني تطلّعتُ إلى صليب الجلجثة، وإذ بابن الله «رَبِّي وإلهي»، وقد صار نائبي وبديلي، وذهب إلى الصليب ليقف مكاني - مكان المذنوبية والدينونة - أمام عدالة الله. لقد حمل في جسمه على الخشبة كل عقاب خطاياي، وكل قصاص أستحقه كأجرة لآثامي وتعدياتي، لقد تحمَّلَ، بالنيابة عني، ألم الموت؛ لقد مات على الصليب لكي أحيَّا أنا في المجد! لقد تألم البار من أجلي أنا الأثيم، لكي يقربني إلى الله.
يا لروعة الصليب!! أنا “العبد” أخطأت وفعلت الشر، وكنت بعدلٍ أستحق الموت والعذاب الأبدي، ولكن «رَبي وإلهي» تحمَّلَ العقاب الأبدي. لقد تحمَّلَ الدينونة وأُعتقتُ أنا «قَدْ أَخْطَأْتُ، وَعَوَّجْتُ الْمُسْتَقِيمَ، وَلَمْ أُجَازَ عَلَيْهِ. فَدَى نَفْسِي مِنَ الْعُبُورِ إِلَى الْحُفْرَةِ، فَتَرَى حَيَاتِيَ النُّورَ» (أيوب٣٣: ٢٧، ٢٨). وعلى الصليب، كان الرب يسوع المسيح «مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا. كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ، وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا» (إشعياء٥٣: ٥، ٦).
لقد كان الصليب بحق هو مكاني ومكانك، وارتضى المسيح أن يعتليه لأجلي ولأجلك، وهناك أُخذَ البار عوضًا عن الأثيم، لكي يُقبَل الأثيم في البار، فخطايانا هي التي أتت بالمسيح إلى الصليب، والمسيح هو الذي أتى بنا إلى الله.
على الصليب أخذ الملك مكان العبيد، أخذ البار مكان الأثمة الخطاة، أخذ الراعي مكان الخراف، أخذ الرب يسوع المسيح مركزنا بكل نتائجه الرهيبة، لكي نأخذ نحن مركزه بكل نتائجه المجيدة. لقد حُسبَ هو المُذنب لكي نُحسب نحن متبررين. تركه الله لكي يقبلنا نحن. صار وسط ساعات الظلمة الرهيبة لكي ينقلنا نحن إلى النور الأبدي.
على الصليب قام عليه كل ما كان ضدنا. وفوق خشبة العار احتمل كل ما كان علينا، لكيلا يبقى علينا شيئًا مطلقًا. واجه الدينونة والموت فناب عنا فعلاً لكي نتمتع نحن بالبر والحياة الأبدية. وشرب كأس الغضب وتجرّع غُصَص الهوان لكي نتناول نحن كأس الخلاص، ونرتوي من فيض محبة الله وغنى نعمته.
عزيزي: هل أدركت معنى البَدَلِيَّة العِقَابِيَّة؟ بالاختصار، لقد نزل المسيح بالنعمة إلى حيث كنا، لكي يرفعنا ويُعطينا مكانًا معه حيث هو الآن، لكي نسكن معه إلى الأبد. أخذ على الصليب ما نستحقه نحن، لكي نأخذ نحن ما استحقه هو. ولم ينزل من الصليب إلا بعد أن قال «قد أُكْمِلَ» (يوحنا١٩: ٣٠)، فسدَّد لعدالة الله حقوقها، ودفع أجرة الخطية بدلاً عنا، ولم يبقَ على الخاطئ الأثيم الذي يريد أن يتبرر إلا قبول عمل المسيح لأجله بالإيمان.