تنوعت أفعالهم وتباينت ظروفهم واختلفت أزمانهم؛ لكنهم اتفقوا على إتمام سعيهم
نحو الغرض الموضوع أمامهم. بقدر ما كان الغرض واضحًا أمامهم، تشدَّدت قواهم لمواصلة سعيهم بل ركضهم نحو الهدف الثمين الذي شغل قلوبهم وسبى مشاعرهم. لم تخلُ طرقهم من بريق يخطف الأنظار وينجذب له الصغار والكبار، كما لم تخلُ طرقهم الوعرة من أحجار معثرة، أما هم فقد عقدوا العزم في قلوبهم ألا تسود غاية أخرى عليهم، أو تستهلك شيئًا من قواهم فتجعلهم يحيدون عن غرضهم الأوحد قيد أُنملة.
دعونا نتأمل معًا في بعض النماذج المخلصة من رجال الله، الذين ظهرت فيهم هذه الفضيلة، راجين من الرب أن يصنع منَّا رجالاً، يقفون في صفِّه ويُخلصون له الحب، ويكون الهدف الأوحد الذي نركض نحوه هو إكرام الرب وحده، وإتمام قصده في حياتنا.
أولاً: نحميا والمشروع العظيم
«أرْسَلَ سَنْبَلَّطُ وَجَشَمٌ إِلَيَّ قَائِلَيْنِ: “هَلُمَّ نَجْتَمِعُ مَعًا فِي الْقُرَى فِي بُقْعَةِ أُونُو”. وَكَانَا يُفَكِّرَانِ أَنْ يَعْمَلاَ بِي شَرًّا. فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِمَا رُسُلاً قَائِلاً: “إِنِّي أَنَا عَامِلٌ عَمَلاً عَظِيمًا
فَلاَ أَقْدُرُ أَنْ أَنْزِلَ. لِمَاذَا يَبْطُلُ الْعَمَلُ بَيْنَمَا أَتْرُكُهُ وَأَنْزِلُ إِلَيْكُمَا؟”» (نحميا٦: ٢، ٣). توجَّه نحميا من قصر ملك فارس إلى أورشليم وفي قلبه أن يصنع عملاً عظيمًا. هذا العمل له قيمة عظيمة في عينيه لأنه رأى أن إلهه العظيم وشعبه عظيم؛ فكل ما يمكن أن يفعله لمجد إلهه وبركة شعبه لا بد أن يكون له قيمة عظمى. بدأ بداية حسنة، إذ لم يكتفِ بأن يسمع أخبارًا ويجمع معلومات، بل سكب قلبه أمام الرب في تذلّل وانكسار، فأعطاه الرب رؤية للعمل (استجابة لتضرعاته) فتوجه إلى الملك وطلب إجازة وقصَّ عليه موضوع همه، فأعطاه الرب نعمة في عيني الملك وأعطاه سؤله. لكن العمل لم يخلُ من المقاومين والمستهزئين. تارة يسخرون منه، وتارة يخيفونه، تارة يشتِّتون تفكيره، وتارة يسعون لتدميره. عندما نقرأ سفر نحميا سنجد أن نحميا سار في هذه الخطوات التالية لينجز المشروع العظيم الذي جعله الرب في قلبه:
١- تضّرع إلى الرب بانكسار بصلوات وأصوام أيامًا كثيرة.
٢- سمع صوت الرب وأعطاه الرب رؤية للعمل الذي يعمله.
٣- أخذ خطوات عملية، وتحرك ليتمم ما وضعه الرب في قلبه أن يفعله.
٤- استند على نعمة الرب لإتمام العمل، ولم يتعطل سعيه رغم المقاومين والمستهزئين.
ثانيًا: دانيآل والقلب الفهيم
«وَإِذَا بِيَدٍ لَمَسَتْنِي وَأَقَامَتْنِي... فَقَالَ لِي: “لاَ تَخَفْ يَا دانيآل، لأَنَّهُ مِنَ الْيَوْمِ الأَوَّلِ الَّذِي فِيهِ
جَعَلْتَ قَلْبَكَ لِلْفَهْمِ وَلإِذْلاَلِ نَفْسِكَ قُدَّامَ إِلهِكَ، سُمِعَ كَلاَمُكَ، وَأَنَا أَتَيْتُ لأَجْلِ كَلاَمِكَ”» (دانيآل١٠: ١٠-١٢). كان دانيآل من الفتيان اليهود الذين سباهم نبوخذ نصر من يهوذا. تميَّز بأمانته واستقامته، وأكرمه الرب بمنصب رفيع، في المملكة. لكن عظمة مركزه لم تجعله ينسى إلهه أو شعبه. ظهرت له رؤيا أزعجته وأبكته، بل أفقدته الشهية للطعام، فضعف جسده؛ لكن في كل ذلك لم يقصِّر في عمله البتة. «وَأَنَا دانيآل ضَعُفْتُ وَنَحَلْتُ أَيَّامًا، ثُمَّ قُمْتُ وَبَاشَرْتُ أَعْمَالَ الْمَلِكِ، وَكُنْتُ مُتَحَيِّرًا مِنَ الرُّؤْيَا وَلاَ فَاهِمَ» (دانيآل٨: ٢٧). ففعل كما يفعل الأتقياء دائمًا، وقت حيرتهم وضيقة نفوسهم، صارع في صلاة حارة (مذكورة في الأصحاح التاسع) طالبًا أن يفهم، وحسنًا فعل، لأن كل حكماء بابل بكل ما لديهم من علم ومعرفة، لا يمكنهم فهم أمور الله. «النَّاسُ الأَشْرَارُ لاَ يَفْهَمُونَ الْحَقَّ، وَطَالِبُو الرَّبِّ يَفْهَمُونَ كُلَّ شَيْءٍ» (أمثال٢٨: ٥). فطلب الفهم من كل قلبه فناله. عندما نقرأ سفر دانيآل سنجد أن دانيآل سعي بمثابرة وإصرار نحو هذا الهدف الجليل:
١- وضع في قلبه أن يكون أمينًا لإلهه مهما كلَّفه الأمر.
٢- أدرك أن الصلاة هي الملاذ الوحيد في كل أزمة يواجهها.
٣- سلك بالاستقامة في مباشرة عمله المُكلَّف به في المملكة.
٤- أكرمه الرب برؤى مجيدة ليعلمه عن أمور مستقبلة؛ فأحب الفهم، وتضّرع للرب، وتذلل كي يفهم فاستجاب له الرب.
ثالثاً: بولس والسعي الكريم
«أَيُّهَا الإِخْوَةُ، أَنَا لَسْتُ أَحْسِبُ نَفْسِي أَنِّي قَدْ أَدْرَكْتُ. وَلكِنِّي أَفْعَلُ شَيْئًا وَاحِدًا: إِذْ أَنَا أَنْسَى مَا هُوَ وَرَاءُ وَأَمْتَدُّ إِلَى مَا هُوَ قُدَّامُ، أَسْعَى نَحْوَ الْغَرَضِ لأَجْلِ جَعَالَةِ دَعْوَةِ اللهِ الْعُلْيَا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ» (فيلبي٣: ١٣، ١٤). تمَّم بولس بفرح سعيه نحو الغرض المجيد والذي دفعه لذلك:
١- أنه أعطى نفسه للرب أولاً: الأساس الذي كانت ترتكز عليه كل خدمة بولس أنه عبد ليسوع المسيح. لم تعُد لذاته قيمة أو مقامًا؛ بل أنكر وجودها تمامًا، لم تكن نفسه ثمينة عنده؛ لأنه قد أعطاها بجملتها لسيده.
٢-
أنه يعمل عملاً فاضلاً: كان يدرك جودة السعي الذي أنفق فيه حياته، وقد أسماه الجهاد الحسن. كان بولس يفهم ما معنى أن يكون عاملاً مع الله، ومن أجله، مقدِّرًا عظمة خدمة الرب يسوع وربح النفوس وبنيان الكنيسة.
٣-
أن تعبه ليس باطلاً: أدرك بولس أن أتعاب خدمته وجهاده سوف ينال عليها مكافآت جليلة أمام كرسي المسيح.