للنبات جذور يضربها في الأرض ليستمد الماء والعناصر المختلفة التي تغذيه، وللبناء أساس كلما كان عميقًا كلما كان ثباتُه ورسوخُه مضمونًا. ويمكنك أن تقف على شاطئ البحر تستمتع بألوانه الخلابة ونسائمه المُنعِشة، بل يمكنك أن تعرف الكثير عنه وعن الكائنات التي تعيش في داخله، ولكن أن تغوص في أعماقه وتشاهد بنفسك هذا العالَم المُدهِش فهذا شيء آخر! ومع أن للأعماق جاذبية شديدة، يقنَع كثيرون بالوقوف خارجًا ويستسلمون لأحلام اليقظة.
لقد نجح الشيطان أن ينشر السطحية على أوسع نطاق في العالم كله، ويتزايد مُحبُّوها - أعني ضحاياها - كلَّ يوم! أصبح الاهتمام بالقشور هو السائد، وأصبح التعمُّق في أي شيء عند بعض الناس مرادفًا للتفلسف والتحذلق. صار قبول الأخبار وتناقلها دون فحص أو مراجعة من أسهل ما يمكن، وبات الاهتمام بالمظهر دون الجوهر هو سِمة الحياة التي نعيشها.
من أكثر ما يُمَيِّز عصرنا هو السُّرعة في كل شيء؛ الاتصالات والانتقالات وحتى تناول الطعام... لا شك أن هذا سهَّل حياتنا بطريقةٍ ما، ولكنه أيضًا أثَّر علينا سلبيًّا. من ضمن ما ساهم في انتشار السطحية سُرعة الوصول للمعلومات. قديمًا كان الإنسان يبذل مجهودًا كبيرًا في الوصول للمعرفة. ولم تَكُن المعرفة مجرد بيانات أو أفكار أو معلومات، بل كانت عميقةً في كيان الإنسان، تلمس واقعه، وترتبط ارتباطًا وثيقًا بالحكمة؛ أي إنها كانت تُعينه على أن يُجيد التعامل مع الآخرين وأن يُحسِن التصرُّف في المواقف المختلفة. أما الآن، فالاهتمام هو بالمعلومات لا بالمعرفة، ولم يَعُد للحكمة تقديرٌ كبير بيننا.
إن كانت السطحية قد استَشْرَتْ في جسد هذا العالَم، فمن أكثر ما يؤرقني أنها تسلَّلت إلى حياة أولاد الله، وربما دون وعي بخطورتها والشرور التي تنتج عنها صارت هي سِمة كنيسة الله في هذه الأيام! صديقي القارئ، إن معرفة الله غير المحدود والنمو فيها لا يمكن أن تكون دون تعمُّق، وكلام الله في الكتاب المقدس ينبغي أن نتناوله بكل جدِّية، والالتزام في تبعية السيِّد والمُعلِّم يجب أن يُميِّز حياة كل قديس في المسيح. إن الحياة المسيحية يستحيل أن تُعاش بسطحية!
أود أن أتناول معك، يا صديقي القارئ، بعض مظاهر السطحية:
١. لم يكن له عُمق أرض
في مَثَل الزارع (متى١٣ ومرقس٤ ولوقا٨)، تحدَّث الرب يسوع عن أنماطٍ متنوعة من المستمعين لكلمة الله مُشَبِّهًا إياهم بأنواعٍ مختلفة من التُّربة. النوع الثاني كان «الأَمَاكِنِ الْمُحْجِرَةِ»، والبذور التي سقطت عليها نبتت بسُرعة لأنه لم يكُن لها «عُمْقُ أَرْضٍ». بالتالي، لم تستطع الجذور أن تستمد المياه من أعماق الأرض لأنها صخرية. وهكذا، لمَّا أشرقت الشمس جفَّت واحترقت. فسَّر الرب هذا النوع بأنه المستمع الذي يقبل الكلمة بسرعة وربما بفرحٍ أيضًا، ولكن عندما يأتي الامتحان في صورة ضيق أو اضطهاد، «فَحَالاً يَعْثُرُ» ويرتد بسرعة. هذا المستمع لم يكُ
ن إيمانُه حقيقيًّا لأنه لم يثبت أمام التجربة!
هذه أخطر صورة للسطحية في الأوساط المسيحية: الإيمان المؤقَّت! هناك مَن يقبل كلمة الله ويفرح بها «إلى حين»، ولكن «ليس له أصلٌ في ذاته». وعندما يعثر ويرتد، يحتار المُحيطون بهذا الشخص: كيف ارتد بعد أن آمن؟ والواقع أنه لم يؤمن إيمانًا حقيقيًّا، لأنه لم يكُن عميقًا؛ أي إنه عرف بعض المعلومات وربما اقتنع ببعض الأفكار من كلمة الله، وربما أثَّرت فيه أيضًا إذ افتكر أن الحياة مع الله أفضل من الحياة بدونه لأنها ستجلب له الراحة والغِنَى، ولكن إيمانه لم يصل إلى درجةِ أن يستأمن المسيح على حياته، مُتَّحِدًا به، راغبًا في طاعته والعيشة لأجله. فلما حصل الضيق والاضطهاد، أدرك أن الأمر لم يكن كما توقَّع، وتراجع على الفور!
٢. علاقة غير مباشرة
مَثَل شائع كثيرًا ما نسمعه ونُرَدِّده:
“- تِعرَف فُلان؟ - أعرفه. - عاشِرته؟ - لأ. - يبقى ماتعرفوش!”
ومدلول هذا المثل مفهوم؛ فهو يتكلم عن أن العلاقات تنمو بالشركة والعِشرة، ولا تكفي مجرد المعرفة السطحية لأن تعرف أحدهم حقًّا. هذا ينطبق أيضًا على علاقتنا بالله. لا يكفي أن تعرف بعض المعلومات - حتى وإن كانت صحيحة - عن الله، ولا يكفي أن يكون ارتباطك به عن طريق شخص آخر، لكن العلاقة الحقيقية هي العلاقة المباشرة التي تنمو عن طريق الشركة اليومية معه.
هكذا كان لوط! فلا يُمكنك أن تقرأ تكوين١٢و١٣ ولا ترى بوضوح أنه كان يسير وراء أبرام دون تفكير. لا ريب أن أبرام كان رَجُل الإيمان، وكانت له دعوة خاصة من الله، ولا شكَّ أيضًا أن لوطًا كان بارًّا (٢بطرس٢)، ولكن يبدو أن مشكلة لوط كانت تكمن في أن علاقته بالله لم تكُن مباشرة. أخطأ أبرام وانحدر إلى مصر، فانحدر لوط معه. ردَّ الرب أبرام إلى مكان الشركة مرةً أخرى، وعاد معه لوط ولكنه ترك قلبه في مصر! وانفصل بعد ذلك عن رَجُل الإيمان وسكن في سدوم، وهكذا ابتدأ انحطاطًا متواليًا أدَّى به إلى أنه «خَسِر نفسه» كما قال الرب، مع أنه كان مؤمنًا! ومع أنه كان بارًّا، لكنه عاش مُعذَّبًا!
عزيزي القارئ، يمكن أن تكون مؤمنًا وستذهب إلى السماء، ولكنك ستفقد قصد الله السامي لحياتك وستعيش بلا معنى ولا تأثير كما كان لوط «كمازحٍ في أَعيُنِ أصهاره»، وذلك إن لم تبدأ بعلاقة قوية مع الله تنمو يوميًّا عن طريق العِشرة المُباشرة معه من خلال كلمة الله والصلاة والشركة مع المؤمنين. لا تكتفِ بأن تتبع قائدًا أو واحدًا من أصدقائك، مهما كانت علاقته مع الله، ولتكُن لك أنت علاقتك الخاصة به! لا تَكُن سطحيًّا في علاقتك بالله!
٣. حَفَر وعَمَّق
في نهاية العظة الأشهر بين عظات الرب - له المجد - والمعروفة بـ “الموعظة على الجبل” (متى٧: ٢٤-٢٧)، شبَّه الرب الشخص الذي يسمع كلامه ويعمل به بِرَجُل عاقل أسَّس بيته على الصخر، ومَن يسمع ولا يعمل بِرَجُل جاهل بنى بيته على الرمل. جاءت التحديات والأخطار على بيت الأول فصمد وثَبَت، وجاءت على بيت الثاني فانهار وسقط!
في هذا التشبيه (وفي النص الموازي في لوقا٦: ٤٦-٤٩) أراد الرب أن يُوَجِّه أنظارنا جميعًا إلى حتمية الطاعة. إنها ليست رفاهية، بل هي مسألة حياة أو موت! وصورة البيت الذي «مِنْ دُونِ أَسَاسٍ» تؤكد لنا أن عدم طاعة كلام الرب هي مِن صُوَر السطحية، والرجل الحكيم هو الذي «وَحَفَرَ وَعَمَّقَ وَوَضَعَ الأَسَاسَ عَلَى الصَّخْرِ».
أعترفُ أن هذا كثيرًا ما يُوَبِّخني، لأنني اختبرتُ صدق كلمات الرب مِرارًا: المناطق الضعيفة في حياتي والتي أسقط فيها بسهولة هي تلك التي لا أُطيعه فيها. طاعتي للرب تنبع من ثقتي فيه وفي أنه يعرف ما هو لخيري، وثقتي منشأها محبتي له، ومحبتي له ما هي إلا ردُّ فعل لمحبته هو لي. ما لم أتمتع بمحبته لن أستطيع أن أُحبه وأثق فيه وأطيعه، فمَن يُطيعه يثبت في محبته!
وللحديث بقية، بمعونة الرب...