رأينا في العدد السابق حتمية موت المسيح على الصليب »وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى الْحَيَّةَ فِي الْبَرِّيَّةِ هكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ابْنُ الإِنْسَانِ،» (يوحنا٣: ١٤). ولأن الصليب هو أساس رد اعتبارات مجد الله، وخلاص الإنسان. لذا بدأنا به أولًا. وفي هذا العدد سنلقي الضوء بمعونة الرب، على حتمية جديدة متعلقة بحياة الرب يسوع على الأرض.
حتمية علاقته بأبيه السماوي
(لوقا٢: ٤٩؛ يوحنا٩: ٤).
في الجزء غير المعروف من حياة الرب يسوع المسيح، أي من مولده إلى يوم معموديته، وبداية خدمته الجهارية، لم يسجَّل الكتاب المقدس عنها إلا القليل: كزيارة الرعاة له وهو طفل مضطجع في المذود، وحّمل سمعان الشيخ له على ذراعيه، عندما قدمه أبويه كالبكر للرب، وقدما ذبيحة في الهيكل (لوقا٢: ٨-٣٥)؛ وزيارة المجوس وسجودهم له، ثم الهروب إلى مصر والعودة لإسرائيل (متى٢).
لكن سنقف أمام الحادثة الفريدة والشهيرة في حياة الرب وهو في الثانية عشر من عمره عندما ذهب مع يوسف ومريم إلى أورشليم في عيد الفصح، وفي نهاية العيد رجع الجميع وبقي هو في أورشليم في الهيكل وسط المعلمين، يسمعهم ويسألهم ويجيبهم. ولما أبصراه، يوسف ومريم واندهشا، قال قولته الشهيرة
«يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا لأَبِي؟
». ومن هذه الحتمية نخرج بالأفكار الآتية:
١- لا أظن أنه يوجد أحد من مؤمني العهد القديم استطاع أن يسمي الله أباه الشخصي إلا الرب يسوع لأن هذا القول كان امتياز له وحده كالمسيا المنتظر «إِنِّي أُخْبِرُ مِنْ جِهَةِ قَضَاءِ الرَّبِّ: قَالَ لِي: “أَنْتَ ابْنِي، أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ”» (مزمور٢: ٧).
٢- أول كلمة مسجَّلة بالكتاب المقدس للرب يسوع هي مختصة بالآب «أكون فيما لأبي». وآخر كلمة له وهو على الصليب تخص الآب
«وَنَادَى يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَقَالَ: يَا أَبَتَاهُ، فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحي. وَلَمَّا قَال هذَا أَسْلَمَ الرُّوحَ» (لوقا٢٣: ٤٦).
٣-
«يَنْبَغِي» سواء كان الرب ظاهرًا أم مختفيًا، يعمل في دكان نجار بسيط، أو يعمل وسط الجموع الكثيرة. وكأنه أراد أن يعلن في أول خطوة له أنه سيسير في طريق طويل ينتهي بموت الصليب. وحتمًا سيكون فيما لأبيه.
٤- من هنا نفهم أن علاقة الإنسان يسوع المسيح بأبيه السماوي كانت قائمة وموجودة قبل مسحه بالروح القدس وهو يعتمد من المعمدان، واستعلان هذه العلاقة أمام الآخرين مع بدء خدمته العلنية.
٥- لم يكن شغله الشاغل أورشليم والهيكل والعيد كباقي الناس، خاصة من هُم في سنه! لذا لم يكتفِ بممارسة الطقوس الواجبة، وتقديم الذبيحة ثم العودة مع الباقين. فكل هذا شيء، ومحبة الآب السماوي والتعلق به وطاعته شيء آخر.
٦- كان في ما لأبيه وهو يجلس مع الشيوخ، فرغم علمه الغزير ومعرفته كل شيء - وهنا لا ننسى أنه هو المُعطي الناموس لموسى - لكنه في أدب وتواضع يسمع ويسأل كالمتعلمين بكل خضوع واحترام يليق بالشيوخ الكبار. ألم يوصِ بهذا في الشريعة «مِنْ أَمَامِ الأَشْيَبِ تَقُومُ وَتَحْتَرِمُ وَجْهَ الشَّيْخِ، وَتَخْشَى إِلهَكَ. أَنَا الرَّبُّ» (لاويين١٩: ٣٢). وهنا اكتسب إحترام وإعجاب الشيوخ والمعلمين ومحبتهم.
٧- في هذا السن المبكر ابتدأ يفرق بين علاقته بأبويه الأرضيين، وعلاقته بأبيه السماوي. ولم يقف طويلاً أمام عدم معرفة مريم ويوسف به للآن، وعدم فهمهما لكلامه. فمريم التي تعلم ما قيل لها عند الحبل به، وما سمعته عنه من الملاك ومن سمعان الشيخ ومن أليصابت وغيرهم، تلومه قائلة له «لِمَاذَا فَعَلْتَ بِنَا هكَذَا؟».
٨- كان فيما لأبيه في نزوله مع مريم ويوسف وخضوعه لهما، تتميمًا للناموس «أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ». فكل ما يمت للعناد وعدم الطاعة، الصفات التي تظهر في من هم في مثل سنه، كان بعيدًا عن أخلاقه التي ظهرت في طفولته.
٩- أي كمال هذا الذي أظهره المسيح في هذا المشهد؟! فمع أنه كان يعرف جيدًا أنه ابن الله، فقد كان في نفس الوقت الإنسان الكامل والطائع لأبويه حسب الجسد.
نأتي الآن لحتمية اخرى أعلنها المسيح أثناء خدمته والمرتبطة بأعماله
«يَنْبَغِي أَنْ أَعْمَلَ أَعْمَالَ الَّذِي أَرْسَلَنِي مَا دَامَ نَهَارٌ» (يوحنا٩: ٤).
في الأصحاح السابق (يوحنا٨) أشار الرب يسوع أكثر من مرة أن الآب هو الذي أرسله. وهنا نخرج ببعض الأفكار: ١- المسيح مُرسل من الآب ٢- رسالته هي العمل ٣- وقت العمل مُقصَّر.
١- ينبغي: والمرسل الكامل. فالكتاب المقدس يسجل لنا أسماء مرسلين من الله، ولكن هم شيء والمرسل الكامل شيء آخر ولنذكر بعض منهم وصفاتهم:
- يونان أرسله الرب لنينوى لكنه في البداية هرب ولم يعمل ما طلبه الرب.
- موسى النبي أرسله الرب ليخرج شعبه من مصر فاعتذر أكثر من مرة، وأخيرًا قال للرب «أَرْسِلْ بِيَدِ مَنْ تُرْسِلُ».
- إشعياء النبي احتاج أولًا إلى جمرة من على المذبح بها ينزع الرب إثمه ويكفر عن خطيته لأنه - بحسب إعترافه - إنسان نجس الشفتين. ثم بعدها يقول للرب: »هأَنَذَا أَرْسِلْنِي».
لكن يسوع المسيح هو فوق الجميع لأنه أتى من فوق. فلم يهرب بل قدم نفسه بروح أزلي. ولم يعتذر مع أنه خرج من السماء وأتى وهو عالم بكل ما سيأتي عليه. ولم يكن فيه خطية ولا إثم بل كان هو القدوس الكامل.
٢- ينبغي: لأن رسالته هي العمل. لم يأتِ ليقول كلامًا بل ليعمل أولًا ثم يعلم. لم يفعل شيئًا لنفسه، ولم يفعل شيئًا لتنظره الناس. وكأنه يعلنها للكل أنه ملزم كإنسان أن يعمل أعمال الآب للدرجة التي صارت هي كل حياته وهي كل لذاته ومعها نسى حتى احتياجاته المشروعة للإنسان كالأكل مثلًا، لذا قال للتلاميذ «طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَهُ» (يوحنا٤: ٣٤).
٣- ينبغي: لأن الوقت مقصَّر «مَا دَامَ نَهَارٌ» فالنهار محدَّد بساعاته الإثنى عشر، والساعات تمر، فكان يجب عليه أن يعمل قبل أن تغرب الشمس، أي تنتهي حياته على الأرض كإنسان، لا بد أن يعمل للنهاية.
عزيزي القارئ: لا تنسى أن المسيح ترك لنا مثالًا لنتبع خطواته. كانت حياته كلها حتميات مرتبطة بأبيه. وماذا عني وعنك؟
أخي الشاب، يا من أنت في الثانية عشر أو تخطيتها، هل أنت في ما لأبيك السماوي؟ هل أنت خاضع لأبويك نظير المسيح؟ ما هي علاقتك بشيوخ ومعلمي كنيستك؟ أم أن حياتك كلها عناد وفعل الإرادة الذاتية؟
أحبائي، إن أيامنا على الأرض معدودة وستنتهي سريعًا كالبخار. فليتنا نعمل أعماله، ونخدم من قال لنا قبل صعوده «كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ أُرْسِلُكُمْ أَنَا».