“كوليندا غرابار كيتاروفيتش” هي أول رئيس امرأة لدولة كرواتيا في تاريخها، منذ أن فازت في الانتخابات الرئاسية في فبراير ٢٠١٥. ولم يكن هذا الفوز غريبًا على امرأة درست في الولايات المتحدة الأمريكية، وحصلت على درجة الماجستير في العلاقات الدولية من كلية العلوم السياسية، وأصبحت عضوة في البرلمان الكرواتي، ثم سفيرة لكرواتيا في الولايات المتحدة الأمريكية، ثم أمينًا مساعدًا لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، ثم وزيرة للشؤون الخارجية لكرواتيا، حتى وصلت إلى منصب الرئاسة. وهي متزوجة ولها طفلان، تُجيد ٧ لغات، وسبق أن أعلنت أنها تعيش وفق القيم والمبادئ المسيحية.
خطفت الرئيسة “كوليندا” كل الأضواء والأنظار والكاميرات خلال مونديال روسيا ٢٠١٨ بعد أن وضعت زي الشخصية السياسية جانبًا، وارتدت قميص منتخب بلادها بالمربعات الحمراء والبيضاء، وظهرت في استاد “فيشت” في مدينة “سوتشي” الروسية، لحضور مباراة منتخب بلادها كرواتيا أمام روسيا، حتى أن البعض اعتبرها اللاعب الثاني عشر في منتخب بلادها.
“كوليندا” ذات الخمسين عامًا، اشترت تذاكر المباريات بمالها الخاص، وسافرت - برفقة الجماهير - على نفقتها الخاصة، ووصلت إلى روسيا من دون الطائرة الرئاسية المُخصَّصة لها، مُفضلة أن تقلها الطائرة التي تنقل جماهير بلادها، على مقعد في الدرجة السياحية العادية.
وبعد أن أنهت “كوليندا” زياراتها البروتوكولية مع الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، نزلت لمقابل شعبها، بلباس منتخب بلادها، وبتذكرة عادية دخلت الملعب، وجلست وسط الجمهور الكرواتي، ولم تقبل الانتقال إلى منصة الشخصيات الهامة، إلا بعد إلحاح من رئيس الوزراء الروسي “دميتري ميدفيديف”. وهكذا كان عليه أن يتقبل بصدر رحب طريقة احتفالها بالفوز على البلد المُضيف روسيا.
وفرحة “كوليندا” بالفوز أضحت ماركة مسجلة للاحتفال بالفوز؛ فبعد تفاعلها بحماس كبير، على مدار أكثر من ١٢٠ دقيقة، دخلت غرفة خلع ملابس اللاعبين، وهتفت معهم واحتضنتهم، في مشهد جميل يُعبِّر عن فرحة عفوية كبيرة.
ولم تتوقف السَيِّدة الأنيقة عن خطف القلوب، حيث قامت بجولة في شوارع مدينة “سوتشي” التي احتضنت مباراة روسيا وكرواتيا، والتقطت الصور مع سكان المدينة، وتحدثت معهم في واقعة لا تتكرر كثيرًا!
وبعد انتهاء المباراة النهائية في المونديال، وأثناء مراسم تكريم منتخب بلادها لفوزه بالمركز الثاني في البطولة، بعد هزيمته أمام فرنسا، غلبت الدموع “كوليندا” أثناء اقتراب لاعبي منتخب بلادها من منصة التتويج، الأمر الذي دفعها لاحتضانهم، ودخلت في حالة بكاء أثناء رؤيتها لدموع الهزيمة في أعينهم.
تصرفات “كوليندا”لم تجذب العدسات فقط، بل أيضًا مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تناقل الناشطون الكثير من ردات فعلها خلال المونديال، وأبدى الكثير احترامه وإعجابه بها، بسبب عفويتها وبساطتها واتضاعها، وخروجها من عباءة الشخصية السياسية الرئيسية في بلادها، لتكون مجرد مواطنة تتشارك مع شعبها لحظات أفراحه، وتتقاسم معه لحظات إخفاقاته.
تابعت ردود الأفعال على تصرفات الرئيسة “كوليندا” أثناء المونديال، وقرأت كلمات الإعجاب بتواضعها وبساطتها، وكنت دائمًا أسال نفسي: وماذا عن اتضاع «الْمَسِيحِ الرَّئِيسِ» (دانيال٩: ٢٥)؟! وماذا عن بساطة ووداعة «رَبِّي وَإِلَهِي» (يوحنا٢٠: ٢٨)؟! وأين نجد التواضع مُعلَنًا في ملئه إلا في شخص الرب يسوع المجيد؟! إنه – تبارك اسمه - المثال الكامل والفريد للوداعة وللبساطة وللاتضاع! فالذي هو قبل أن يكون زمان، وبأمره دارت عجلة الزمن، الذي جعل الكون ينبض بالحياة، الذي هو بهاء مجد الله ورسم جوهره، الكلمة الأزلي الأبدي «صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا» (يوحنا١: ١٤)، مُشتركًا في اللحم والدم، حتى يستطيع أن يقترب إلينا دون أن يُرعبنا، وهذا ما يملأ نفوس المؤمنين به بالإعجاب والتعبد.
إنه – له كل المجد - لم يأتِ كما يأتي ملك أو رئيس لزيارة رعاياه في بيوتهم وشوارعهم، ناطقًا لهم بكلمات رقيقة، يلتقط معهم بعض الصور التذكارية الدعائية، ثم يتركهم ناسيًا إياهم، لكنه «حَلَّ بَيْنَنَا». لم يتباعد عنا، بل دخل في ظروف الحياة، واشترك في أحزان الناس، ودخل في بيوتهم، وجعل الاتصال به سهلاً ميسورًا، حتى لأفقرهم وأشرهم «حَلَّ بَيْنَنَا... مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا».
«الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً لِلَّهِ. لَكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ» (فيلبي٢: ٦-٨). ولنتأمل في ذاك المجيد الفريد الذي سَتَرَ صورة الله تحت صورة العبد، وحجب أمجاد اللاهوت في حجاب الناسوت، الذي نزل من مجد الله ذاته إلى الصليب آخذًا صورة إنسان، ليأتي إلى الأرض ليتألم ويموت. وطوال حياته نشاهد هذا التواضع في كل خطوة: «النَّجَّارَ» (مرقس٦: ٣)، «ابْنَ النَّجَّارِ» (متى١٣: ٥٥)، «ابْنُ الإِنْسَانِ (الذي) لَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ» (متى٨: ٢٠)، الذي «يَأْكُلُ مَعَ الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ» (متى٩: ١٠، ١١)، والذي غسل أرجل تلاميذه (يوحنا١٣: ١-١١).
ونقول بكل إجلال واحترام، إنه تعامل مع كل واحد بحسب حالته؛ فلم يطلب منهم معاملة خاصة، بل كان مملوءًا بالرثاء لأحزانهم، ولم يضجر من جهلهم وضعفهم، ولا دانهم لأجل خطاياهم. لقد أبدَى كل استعداد لأن يبسِّط الحق أمام واحد من الفريسيين لما جاء إليه، وكان مملوءًا من النعمة حتى إنه لم يُوَّبخه على جُبنه الذي جعله يتسلل في الظلام ليحظى بمقابلة مع الرب ليلاً (يوحنا٣).
ونعمته هي التي أتت به إلى بئر سوخار ليتكلَّم مع خاطئة منبوذة (يوحنا٤). ولقد سكب الحق بغزارة في قلبها، حتى رجعت إلى المدينة خليقة جديدة، وقد صار شخصه الكريم غرضها الأوحد. لقد كانت المسافة بعيدة للوصول إلى تلك الخاطئة المتألمة، ومع ذلك لم يركب دابة لقطع تلك الأميال الطويلة، بل سار على قدميه حتى وصل مُتعَبًا وجائعًا وعطشانًا، وقابلها كمسافر عابر سبيل، وتكلَّم معها بكل لطف حتى لم تشعر بأي نفور أو خوف في حضرته. حقًا، لقد «حَلَّ بَيْنَنَا»، وحقًا كان «َمْملُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا». وحاشا لنا أن نسمح لاتضاعه وافتقاره وظروف حلوله بيننا أن تخفي عن نفوسنا مجد شخصه، لأنه هو «الْكَلِمَةُ... اَلاِبْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هوَ فِي حِضْنِ الآبِ» (يوحنا١: ١، ١٨).
أيها السَيِّد المحبوب، ليتنا نستطيع أن نعيش أكثر قربًا منك، فنتعلّم منك، ونتعلَّمك! ويا ليتنا - بقوة الروح القدس – نُطيع التحريض «تسَرْبَلُوا بِالتوَاضُعِ» (١بطرس٥: ٥). “تَسـَرْبَلُوا” أي “البسوا ذات الثوب، بذات اللون، للجماعة كلها”، أي ”البسوا الزي الرسمي” للسماويين. وما أروعه، زيًّا رسميًا، تمنحه الحكومة الإلهية، لرعاياها؛ عائلة الله كلها: “التَّوَاضُع”. ومنظر سَيِّدهم بالمنشفة مُتزرًا، وعلى الأرض جالسًا، وللأرجل غاسلاً، وإيَّاها مُنشفًا، نموذجهم في اتضاعهم (يوحنا١٣: ١-٥).