صديقي القارئ، تحدَّثنا في العدد السابق عن السطحية وبعض مظاهرها، ونواصل في هذا العدد حديثنا عن مظاهر أُخرى:
٤. إهمال التبعيَّة
كثيرون من أولاد الله المحبوبين يتوقفون ليرنموا على شاطئ النجاة مثلما فعل بنو إسرائيل (خروج١٥)، ولكنهم يقضون حياتهم – أو معظمها – هناك، ولا يدركون أو يتناسون أنهم خرجوا من أرض العبودية ليكونوا «أجناد الرب» (خروج١٢: ٤١)؛ أي لكي يُتَمِّموا مشيئته في امتلاك أرض كنعان مُحَقِّقين وعوده للآباء ومُطهِّرين الأرض من الوثنية التي تفشَّت فيها.
واليوم كثيرون من المؤمنين يشعرون بالامتنان العميق للرب لأجل عمله الكفاري الكامل على الصليب، ويشكرونه باستمرار على إنقاذه إيَّاهم من الهلاك الأبدي، ويحمدونه على ضمان مركزهم أبديًّا أمام الله، وينتظرون ذلك اليوم السعيد الذي فيه سيكونون «كُلَّ حِينٍ مَعَ الرَّبِّ». هذا حسن ولا غُبار عليه، ولكنه ليس كل شيء! هذه أبجدية الحياة المسيحية. هذه هي الأساسيات، والاكتفاء بها والوقوف عندها صورة من صُوَر السطحية.
لقد دعانا الرب لنكون تلاميذه؛ أي أَتباعه. وعلينا ألا ننسى أنه الآن مرفوض من هذا العالم، وأننا هُنا أتباع المَلِك الحقيقي الوحيد في أرض مُعادية، ومُهمتنا الخطيرة التي عَهَد بها إلينا هي أن نكون أُمناء في الشهادة له في زمان رفضه الآن، إلى أن يأتي الوقت الذي فيه سيأتي بنفسه ويُقيم مُلكه علانيةً بالقوة والمجد.
لو كان قصد الله هو أن يُنقذنا فقط من الهلاك وأن يأتي بنا إلى السماء، لكان الأفضل أنه بمجرد أن نؤمن بالمسيح ونَخلُص، ينقلنا فورًا إلى الفردوس، ولا داعي لأن يتركنا نشقَى في هذا العالم الشرير! لكن ذلك ليس كذلك! إن وجودنا هُنا حتمي ومُهِم وضروري: نحن أعضاء جسد المسيح على الأرض لنُتَمِّم مشيئة الله مُرسَلين من المسيح شخصيًّا لنعيش حياته، مُظهِرين صفاته أمام الذين يرفضونه، مُضيئين بينهم «كأنوارٍ في العالَم».
إن تبعيَّة السيِّد العظيم امتياز وشَرَف وواجب ومسؤولية كُبرى، وهي ليست بالأمر الهَيِّن، لكنها تنطوي على التضحية وإنكار النفس وحمل الصليب كما علَّمنا الرب. ولكن إهمال تبعيَّته أفدح ثمنًا وأشد خطرًا! أن أتبعَ المسيح يعني أن ألتصقَ به لكي أتعلمَ منه وأتأثرَ بشخصيته فتنطبع صفاتُه عليَّ، ومِن ثَمَّ أصبح مؤثرًا وأكون مِلحًا للأرض ونورًا للعالم كما أراد لي أن أكون.
٥. عدم الفحص
من أخطر مظاهر السطحية أن تقبل أخبارًا أو معلومات دون أن تتحقَّق من صِحَّتها، والأخطر من ذلك أن تنقلها للآخرين. على الرغم من فوائد سُرعة انتقال المعلومات، وما أسهمت به شبكة الإنترنت في هذا الصدد، إلا إنه من أوضح مَضَارها أنه أصبح من السهل لأي شخص أن يقول أي شيء دون توثيق أو تحقيق، وتنتشر هذه “الأقاويل” عن طريق الـ“Share” كانتشار النار في الهشيم. وكثيرون من مُستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي لا يُكلِّفون أنفسهم عناء فحص ما يتداولونه، وأحيانًا يكتشفون زيف ما تناقلوه وفي أحيانٍ أُخَر لا يكتشفون!
بخصوص قضية الفحص، كثيرًا ما تتبادر إلى ذهني شهادة الكتاب المقدس عن أُناس من المُتَعَبِّدين لله في مدينة بيرية (أعمال١٧) قال الروح القدس عنهم إنهم“ شُرفاء”، وذلك لأنهم كانوا يقبلون كلمة الله التي كان يقدِّمها الرسول بولس بكل اهتمام، وكانوا يذهبون كلَّ يوم إلى كُتُب العهد القديم، يدرسونها ويراجعون ما يُعَلِّمهم به بولس، ليتأكدوا بأنفسهم من صِحَّة الكلام.
صديقي، دَعْنا نتخلَّص من السطحية ولا نقبل أي شيء قبل أن نفحصه، ولتكُن كلمة الله الصادقة هي مرجعيتنا الأولى في جميع مسائل الحياة والإيمان!
٦. عدم الاجتهاد
الوقوف على شاطئ البحر سهل، أما الدخول للأعماق فيتطلب شجاعةً ومجهودًا يُبذَل ووقتًا يُنفَق. وهكذا الحياة مع الله. لكن لأننا ننال التبرير أمام الله مجانًا؛ أي بلا ثمن ندفعه من جانبنا، مع أنه باهظ جدًّا، ولأننا نحصل عليه بالإيمان لا بأعمالنا، ولأن أمر خلاصنا بِرُمَّته مِن مُطلَقِ نعمة الله؛ لهذا كله ربما نكون قد تخيَّلنا أن النمو في معرفة الله لا يحتاج لبذل الجُهد، والواقع المؤلم هو أنه “ماحدِّش عايز يِتعِب نفسه”. هذا أيضًا من مظاهر السطحية!
إن الاجتهاد فضيلة مُفيدة في كل جوانب الحياة، والوحي يُشَجِّعنا عليها في عَهْدَيْه: فمبادئ الحكمة الإلهية في سفر الأمثال تُحرِّضنا على الاجتهاد، وتُحذِّرنا من الكسل ومن التراخي؛ فالكسل يجعلك لا تعمل ما يجب عليك أن تعمله، أما التراخي فهو أن تعمل الشيء بحماس قليل ودون أن تعطيه ما يستحق من وقت ومجهود؛ أي “بلا ضمير”.
وفي العهد الجديد يوصينا الروح القدس أن نجتهد لكي نحفظ «وَحْدَانِيَّةَ الرُّوحِ بِرِبَاطِ السَّلاَمِ»، وهذا يقتضي أن نسلك «بِكُلِّ تَوَاضُعٍ، وَوَدَاعَةٍ، وَبِطُولِ أَنَاةٍ» وأن نحتمل بعضنا بعضًا في المحبة (أفسس٤: ٢-٣). وقبل أن يشجع الرسول بولس مؤمني فيلبي بحقيقة أن «اللهَ هُوَ الْعَامِلُ فِيكُمْ أَنْ تُرِيدُوا وَأَنْ تَعْمَلُوا مِنْ أَجْلِ الْمَسَرَّةِ» حرَّضهم أن «تَمِّمُوا خَلاَصَكُمْ بِخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ» (فيلبي٢: ١٢-١٣)، فالمسيحية ليست هي ديانة الأعمال التي تحاول أن تُرضي الله بالمجهود الذاتي، لكنها أيضًا لا تُشَجِّع مُطلقًا على حياة التساهل والتراخي وأن ننتظر من الله أن يعمل كل شيء من أجلنا ونحن لا نريد أن نُحَرِّك ساكنًا لنحفظ وصايا الرب وكلامه ولا أن نتعب في خدمته والعمل معه، بينما في الواقع الله يُريد لنا أن ننمو وأن تقوَى عضلاتنا الروحية وأن تنضج شخصياتنا حتى نتمِّم مشيئة الله في حياتنا.
أما أشهر مقطع عن الاجتهاد في العهد الجديد؛ أعني ٢بطرس١: ٣-١١، ففيه يعلِّمنا الروح القدس أن الله من جانبه قد وَهَب لنا «كُلَّ مَا هُوَ لِلْحَيَاةِ وَالتَّقْوَى»، ولكننا نحتاج أن نجعل دعوتنا واختيارنا ثابتَيْن، ليس أمام الله طبعًا بل أمام أنفسنا وأمام الآخرين، وذلك بأن نبذل «كُلَّ اجْتِهَادٍ» مُقَدِّمين في إيماننا «فَضِيلَةً، وَفِي الْفَضِيلَةِ مَعْرِفَةً، وَفِي الْمَعْرِفَةِ تَعَفُّفًا، وَفِي التَّعَفُّفِ صَبْرًا، وَفِي الصَّبْرِ تَقْوَى، وَفِي التَّقْوَى مَوَدَّةً أَخَوِيَّةً، وَفِي الْمَوَدَّةِ الأَخَوِيَّةِ مَحَبَّةً»، فهذا ما يحمينا من التكاسل وعدم الإثمار لمعرفة ربنا يسوع المسيح.
هذا بالإضافة إلى نماذج عديدة من رجال الله في كل الكتاب المقدس تميَّزتْ حياتهم بالاجتهاد، وعلى رأسهم رب الكُل؛ الرب يسوع المسيح. يكفي أن تقرأ الأناجيل، ولا سيما إنجيل مرقس، حتى تعرف كيف كان سيدُنا مجتهدًا في حياته وخدمته، وكيف كان دؤوبًا في عمله سواءً في ورشة النجارة في الناصرة أو عندما ابتدأ «يَطُوفُ الْمُدُنَ كُلَّهَا وَالْقُرَى يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِهَا وَيَكْرِزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ وَيَشْفِي كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضُعْفٍ فِي الشَّعْبِ» (متى٩: ٣٥).
صلاتي أن يمنحني الرب وإيَّاك، صديقي القارئ، قُوَّةً روحية وطاقةً أدبية لكي نعيش حياة الاجتهاد مُتَمثِّلين بِسَيِّدنا العظيم في كل شيء!
وللحديث بقية، بمعونة الرب...