يوجد سفران بالعهد القديم كل منهما باسم امرأة، سفر راعوث “امرأة موآبية” وسفر إستير “امرأة يهودية”. وفي السفرين نرى النعمة تتلألأ بجمال بديع. في سفر راعوث نرى معاملات الله مع عائلة، وفي سفر إستير نرى معاملات الله مع شعب. في سفر راعوث نرى النعمة التي ترُد من الضلال، وتملأ السلال وتبارك الأنسال. أما في سفر إستير نرى النعمة التي ترفع المقام، وتنجي من الإعدام، وتعوض عن الآلام. فضائل هذه النعمة؛ مثل جواهر زيَّنت إكليل نجمة فارس هيبة وجمالاً. دعونا بنعمة الرب نتأمل في عمل النعمة في سفر إستير أصحاحي ٧ و٨.
أولاً: نعمة تفيض بالإنعام وترفع المقام
لماذا وقع الإختيار على إستير لكي تتوَّج ملكة مكان وشتي التي عزلها أحشويرش إمبراطور فارس؟ بينما لم تحظَ بذلك الامتياز واحدة أخرى من كل الفتيات الجميلات من كل الجنسيات والخلفيات في كل إمبراطورية فارس. الكتاب المقدس لا يذكر أنها كانت الأكثر جاذبية وجمالاً على الإطلاق. كما كانت فتاة صغيرة ليس لديها خبرة في الحياة ولا تملك مواهب فذة متميزة، مسبية تعيش في وطن غريب، فقيرة وبسيطة لا تُحسَب بين بنات الأصول كبنات أشراف فارس، يتيمة ليس لها سوى مردخاي الأمين الذي أحسن رعايتها وتربيتها. بمنطق الناس، لا يوجد سبب قوي يجعلها تفوز على جميع المتنافسات في تلك المسابقة الملكية التاريخية. الجواب ببساطة: إنها النعمة والإحسان الإلهي «فَأَحَبَّ الْمَلِكُ أَسْتِيرَ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ النِّسَاءِ، وَوَجَدَتْ نِعْمَةً وَإِحْسَانًا قُدَّامَهُ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ الْعَذَارَى، فَوَضَعَ تَاجَ الْمُلْكِ عَلَى رَأْسِهَا وَمَلَّكَهَا مَكَانَ وَشْتِي» (إستير٢: ١٧). ففي الأصحاح الثاني يتكرر ثلاث مرات القول بأنها “نالت نعمة”؛ وكأنه قرار ترنيمة عذبة حلوة تردِّد كلماتها أفضال نعمته. ليس بالقوة يغلب إنسان يا له من إحسان، يعجز عن وصفه اللسان. عندما نرى بعيوننا أنه ليس كثيرون حكماء أو أقوياء، ليس كثيرون أغنياء أو شرفاء من الذين افتقدتهم نعمة الله.
ثانيًا: نعمة تقهر العدو وتنجي من الإعدام
في هذا السفر نرى أعداء الشعب مجتمعين في مثال في تلك الشخصية الأثيمة وهو “هامان بن همداثا الأجاجي” الذي ذاع صيته واتسع نفوذه وفرض سطوته بدهائه وحيلته. وكلما نَمَت سلطته زادت عجرفته وغروره بل وشراسته. حتى صار العدو اللدود لشعب الله وأعدَّ العُدة لإبادتهم جميعًا عن بِكرة أبيهم.
١. هامان صورة للشيطان. لقد وصفته إستير بثلاث صفات تجعله صورة من إبليس:
(أ)عدو: إبليس هو عدو كل بر.
(ب)خصم: إبليس هو خصم للمؤمنين.
(ج)رديء: إبليس يوصف بأنه الشرير(الرديء).
٢. هامان صورة لروح العالم: لقد نال كل ما يقدَّمه العالم للإنسان (إستير٥: ١١):
(أ)الأملاك والثروة: رغم أن الغنى لا ينفع في يوم السخط (أمثال١١: ٤).
(ب)النفوذ والقوة: رغم أن المُلك قد يزول بأمر معطي السلطان (دانيآل٤: ٣١).
(ج)الذُرية والعزوة: رغم أن نسل الأشرار ينقطع (مزمور٣٧: ٢٧).
٣. هامان صورة للجسد: صورة واضحة للجسد في شراسته.
نرى الجسد بوجهيه “
النجاسة والشراسة” في شخصية عيسو “المستبيح” ونسله “العنيف (عماليق)”. وهامان من نسل أجاج العماليقي. “عماليق” هم نسل عيسو.
كما نرى صورة أخرى للجسد في نجاسته وشراسته في “غراب وذئب” أميري المديانيين. تارة نراه كالغراب (عيسو المستبيح)، وتارة أخرى نراه في شراسة الذئب (هامان الخصم الرديء). كما نلاحظ في القائمة القاتمة من أعمال الجسد (غلاطية٥: ١٩-٢١).
لعل الجسد هو العدو الذي نراه بشكل واضح في شخصية هامان. وهذا العدو هو من ألد الأعداء للمؤمنين، والجسد يشتهي ضد الروح. تربَّص عماليق بالشعب بعد أن ارتوى بماء الصخرة، وهكذا نجد أن الجسد الرديء الذي فينا يستيقظ بعد انتصارات واختبارات مجيدة. وإن تساهلنا معه حصدنا المُرَّ منه. لقد تهاون شاول البنياميني مع أجاج؛ فذاق مردخاي البنياميني المرار من هامان الأجاجي.
ثلاثة أشياء عملتها إستير مع هامان تعكس مراحل مواجهتنا مع ذلك العدو الرديء.
فضح الجسد: كما فضحت إستير وكشفت شر هامان وحيله البغيضة.
صراع مع الجسد: توسل هامان لإستير صور لخداع الجسد ومكره.
حكم على الجسد: فالصلب هو مصيره المحتوم (رومية٦: ٦؛ غلاطية٥: ٢٤).
ثالثًا: نعمة تعوِّض عن الآلام وتجود بالإكرام.
نادت إستير بصوم، فنظر الرب إلى مذلة الشعب؛ ومد يده الرحيمة لهم وبذراعه الرفيعة خلَّصهم من أعدائهم، خلاصًا عجيبًا، لا ينجزه سوى إله حكيم وقدير له السلطان المطلق على الأحداث والزمن.
وسريعًا تغيَّر الحال، تبدَّل الذل والانكسار بفرح وانتصار، والضعف تبدَّل بالقوة. نعم. انتُزع خوفهم ووقع رعبهم على أعدائهم. «قِسِيُّ الْجَبَابِرَةِ انْحَطَمَتْ، وَالضُّعَفَاءُ تَمَنْطَقُوا بِالْبَأْسِ» (١صموئيل٢: ٤).
يا لها من نعمة تعوِّض عن الآلام.
ما أوسع الفرق بين أصحاح ٤ وأصحاح ٨:
في أصحاح ٤ | أما في أصحاح ٨ |
يشق مردخاي ثيابه ويتعرى،
| يُلبس لباس ملكي.
|
يلبس مردخاي المسح والرماد،
| يُلبس إسمانجوني وأبيض.
|
يضع مردخاي التراب على رأسه،
| يتوَّج بتاجٍ من ذهب.
|
نسمع صوت البكاء والنحيب،
| نسمع التهليل والهتاف.
|
نجد أصوام في الليل والنهار،
| نجد الولائم لعدّة أيام.
|
نُشر أمرٌ بإبادة اليهود،
| أمرٌ بإبادة من يعادي اليهود.
|
نرى تذلُّل وخوف شعب الله،
| نرى هيبة ورعب شعب الله.
|
يا لها من نعمة تجود بالإكرام!
نعمة تعوِّض عن الأنين وأتعاب السنين، التعويض لا يُقاس بمقدار التضحية والألم، بل تفوق وتفيض في كرم. الرب في نعمته يُحسن إلى شعبه رغم أنه في هذا السفر يبدو غائبًا عن المشهد؛ لأنه قصد أن يعيدهم إلى أرضهم بعد انتهاء سبيهم، لكن نعمته لم تتخل عنهم في وقت محنتهم. يا له من إله كريم يجود بالإحسان! حتى في أوقات ضعف الشهادة، لا يمنع عنا جوده ونعمته ولا يسد أذنيه عن صراخ عبيده. نجَّاهم وأسعدهم، بدَّل النوح والعويل بالفرح والتهليل، وعوّضهم عن الذل والأصوام بولائم وإكرام.