صديقي القارئ، نستكمل في هذا العدد حديثنا عن مظاهر أخرى للسطحية:
٧. الاستعجال
أتذكَّر جيدًا موقفًا تكرَّر كثيرًا في طفولتي وسِنِي مراهقتي عندما كان أبي العزيز يسألني عن شيء أو يخبرني بشيء، وكنت أتسرَّع في الإجابة قبل أن ينتهي من حديثه، فكان يردُّ عليَّ بهذه الآية: «مَنْ يُجِيبُ عَنْ أَمْرٍ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعَهُ فَلَهُ حَمَاقَةٌ وَعَارٌ» (أمثال١٨: ١٣). أتذكَّر أيضًا أنني مِرارًا كثيرةً سمعتُ مِن والديَّ وأقاربي هذا المثل الشائع: “في التأنِّي السلامة وفي العَجَلة الندامة”.
ربما لسبب ثقافة السُّرعة التي تغلغلت في نظام حياتنا وحضارتنا الحديثة حتى صارت جزءًا من كياننا، أصبحنا نَظُن أن التقدُّم في الحياة المسيحية يحدث عن طريق الضغط على زِر جهاز التحكُّم عن بُعد أو كما نفعل بِلَمْسَة بسيطة لشاشة الهاتف الذكي، ونتناسَى أن نمو أي كائن حي يحتاج إلى وقت طويل. وهكذا، صِرنا نستَثقِل التغيُّر البطيء في شخصيَّاتنا التي يعمل الله على تطويرها طوال حياتنا على الأرض. كما أن التسرُّع في اتخاذ القرارات أو التعَجُّل في الحُكم على المواقف والأشخاص قد يكون من مظاهر السطحية!
قد يظهر الاستعجال في الكلام، وهو ما يعني أنني لا أفكِّر جيدًا في ما أقول ولا أحسب تأثيره على مَن يسمعني، ولذا فإن الوحي يحذِّرنا بأن الرجاء بالجاهل أكثر من الرجاء بإنسان عجول في كلامه (أمثال٢٩: ٢٠). بل حتى في حديثنا مع الله، سواءً في الخلوة الشخصية أو في الاجتماعات، ينصحنا الحكيم: «
لاَ تَسْتَعْجِلْ فَمَكَ وَلاَ يُسْرِعْ قَلْبُكَ إِلَى نُطْقِ كَلاَمٍ قُدَّامَ اللَّهِ، لأَنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاوَاتِ وَأَنْتَ عَلَى الأَرْضِ فَلِذَلِكَ لِتَكُنْ كَلِمَاتُكَ قَلِيلَةً» (جامعة٥: ٢).
التعجُّل في اتخاذ القرارات أيضًا قد يُعَبِّر عن السطحية، فكثيرًا ما حذَّرني الرب بقول الحكيم: «أَيْضًا كَوْنُ النَّفْسِ بِلاَ مَعْرِفَةٍ لَيْسَ حَسَنًا،
وَالْمُسْتَعْجِلُ بِرِجْلَيْهِ يُخْطِئُ» (أمثال١٩: ٢). إن هذا قد يُعَبِّر عن قِلَّة الثقة في الرب وعدم الرغبة في انتظاره.
التسرُّع يظهر أيضًا في الغضب وعدم ضبط النفس: «
لاَ تُسْرِعْ بِرُوحِكَ إِلَى الْغَضَبِ لأَنَّ الْغَضَبَ يَسْتَقِرُّ فِي حِضْنِ الْجُهَّالِ» (جامعة٧: ٩؛ اقرأ أيضًا أمثال١٤: ٢٩ ويعقوب١: ١٩و٢٠). وهذا ليس سهلاً، بل يحتاج إلى كثير من التدريب والتحكُّم في النفس وردود الأفعال، مع كثير من الصلاة وإفساح المجال لعمل الروح القُدُس داخلي لكي يملأني ويُظهِر فيَّ وداعة المسيح وحِلمه.
هناك أيضًا الاستعجال إلى الغِنَى والسعي للكسب السريع، وهو ما يُعَبِّر عن عدم الإيمان وعدم الاتكال على الله؛ مصدر كل العطايا الصالحة. إن الوحي يُشجِّعنا على الاجتهاد، ولكن التسرُّع قد يأتي بنتيجة عكسية: «أَفْكَارُ الْمُجْتَهِدِ إِنَّمَا هِيَ لِلْخِصْبِ
وَكُلُّ عَجُولٍ إِنَّمَا هُوَ لِلْعَوَزِ» (أمثال٢١: ٥). ولأني وكيل ولستُ مالِكًا، فالأهم هو أن أكون أمينًا فيما يمنحني الرب إياه، لأن «اَلرَّجُلُ الأَمِينُ كَثِيرُ الْبَرَكَاتِ
وَالْمُسْتَعْجِلُ إِلَى الْغِنَى لاَ يُبْرَأُ» (أمثال٢٨: ٢٠).
إن سطحية الاستعجال تكمُن في أنني أُريد أن أجعل مِن نفسي إلهًا لأحوالي ولا أعترف بأنه يوجد إله واحد، وهو ليس أنا!
٨. الاكتفاء
“القناعة كنز لا يفنَى”. مقولة صحيحة إذا طبقناها على الأمور المادية. أما لو عِشنا بها في أُمور الله، فبِئسَ الحياة! إن حياتنا مع الله مثل مغامرة مثيرة: فيها الجديد كلَّ يوم، بل إننا سنظل إلى الأبد نكتشف المزيد من جمال إلهنا غير المحدود. ومن السطحية أن أقف عند حدٍّ مُعَيَّن وأكتفي بأقل القليل في معرفة الله وكلمته وأقنع باختباراتي مع الله في الماضي.
الحقيقة، يا صديقي، هي أن حياتنا لا يمكن أن تكون جامدة، فنحن إما نتقدَّم أو نتراجع. وإن ما يحفظنا في حالة الرفعة والسمو هو أن نستمر في طلب المزيد، وما يجعلنا نستمر في الصعود ولا نتدهوَّر روحيًّا هو طلب المزيد من الصعود والارتقاء والنضوج.
من ناحيةٍ أخرى، هناك دروس يريد الرب أن يُعلِّمنا إياها، لا يمكننا بحالٍ من الأحوال أن نتعلَّمها على الشاطئ. الاكتفاء بالوقوف على الشاطئ – وإن كان مُريحًا لنا - يعني أن نقنع بما يُمكن لاختبارات الشاطئ أن تمنحه. أمَّا لكي نرى «أَعْمَالَ الرَّبِّ وَعَجَائِبَهُ» علينا أن ننزل «فِي الْعُمْقِ» (مزمور١٠٧: ٢٣-٢٤).
هذا ما فعله الرب مع بطرس: رحلة صيد فاشلة يأمرُه الرب بعدها أن «ابْعُدْ إِلَى الْعُمْقِ وَأَلْقُوا شِبَاكَكُمْ لِلصَّيْدِ»، يعقبها اندهاش كبير لاصطياد سمك كثير في توقيت غير مُعتاد، وإذا ببطرس يخرُّ عند رُكبتي الرب يسوع قائلاً: «اخْرُجْ مِنْ سَفِينَتِي يَا رَبُّ لأَنِّي رَجُلٌ خَاطِئٌ» (لوقا٥: ٤و٨). قد يرى الرب في حكمته أنه من اللازم لنا أن نجتاز ليلاً حالِكًا من الفشل والحيرة والتعب دون نتيجة، وذلك حتى يمكننا أن نتبع الرب في
طاعة لأوامره وفي
اتِّكال عليه وحده. وهذا ما لا يمكن أن يحدث على الشاطئ!
٩. الافتخار الباطل
“إنت مش عارف أنا ابن مين؟” “إنت عارف بتكلم مين؟” وعبارات أخرى مثل هذه نسمعها كثيرًا. كان العبرانيون يفتخرون بانتسابهم لرئيس الآباء إبراهيم، وكان الكتبة والفريسيون يتباهون أنهم تلاميذ موسى. لقد كانوا بالفعل نسل إبراهيم بالولادة الجسدية، لكن قولهم إن إبراهيم أبوهم هو مَحض ادِّعاء (أرجو أن تقرأ يوحنا٨: ٣١-٤١). وهكذا كان افتخار القادة الدينيين بارتباطهم بموسى ادِّعاءً صريحًا، لكن ما واجههم به الرب هو أن موسى يشكو ضدَّهم لأنهم لم يُصَدِّقوا ما قاله عن المسيح (اقرأ يوحنا٥: ٤٥-٤٧). فمِن السطحية أن أفتخر بشيء لا يُعَبِّر عن واقعي!
أصدقائي، إن الافتخار بالناس هو افتخار باطل؛ سواءً كان افتخاري بنفسي أو بعائلتي أو بأي إنسان آخر مهما كان شأنُه. إن الافتخار الحقيقي يجب أن يكون بالرب فقط (إرميا٩: ٢٣-٢٤ و١كورنثوس١: ٣١ و٢كورنثوس١٠: ١٧)، وبعمل المسيح على الصليب (غلاطية٦: ١٤). والحكيم يُحّذِّرنا من الافتخار بالغد (أمثال٢٧: ١)، وهو أيضًا ما قال عنه الوحي إنه افتخار رديء (يعقوب٤: ١٣-١٦)، وذلك بالنسبة لِمَن يُخَطِّطون للمستقبل دون اتِّكالٍ على الرب ودون اعتبارٍ لحياتهم الأبدية. فلنتحذَّر!
وللحديث بقية، بمعونة الرب...