وبعد أن رأينا المشهد الرباعي الفائت، يجدر بنا أن نتوقف عند حادثتين، لنعرف من خلالهما بعض الشروط التي كان يبحث عنها المسيح في تلاميذه.

الحادثة الأولى: عند السفينة

الحادثة الأولى ذُكرت تفصيليًا في لوقا ٥، ومختصرًا في متى ٤ ومرقس ١، وهي تخص مقابلة للمسيح مع أربعة من أهم تلاميذه تاريخيًا، وهم ثلثهم عدديًا، وهم الأخوين سمعان وأندراوس، بالإضافة لشركائهما الأخوين يوحنا ويعقوب ابني زبدي.

الخبرة

فنقرأ «وَإِذْ كَانَ الْجَمْعُ يَزْدَحِمُ عَلَيْهِ لِيَسْمَعَ كَلِمَةَ اللهِ كَانَ وَاقِفًا عِنْدَ بُحَيْرَةِ جَنِّيسَارَتَ. فَرَأَى سَفِينَتَيْنِ وَاقِفَتَيْنِ عِنْدَ الْبُحَيْرَةِ، وَالصَّيَّادُونَ قَدْ خَرَجُوا مِنْهُمَا وَغَسَلُوا الشِّبَاكَ. فَدَخَلَ إِحْدَى السَّفِينَتَيْنِ الَّتِي كَانَتْ لِسِمْعَانَ، وَسَأَلَهُ أَنْ يُبْعِدَ قَلِيلاً عَنِ الْبَرِّ. ثُمَّ جَلَسَ وَصَارَ يُعَلِّمُ الْجُمُوعَ مِنَ السَّفِينَةِ» (لوقا ٥: ١-٣).

فالمسيح لم يختَر تلاميذه من ذي القرابة له ليضمن ولائهم، ولا من ذي الخبرة ليوفر عناء تعليمهم، لكنه اختار البسطاء والمجهولين، وبدأ معهم الرحلة من البداية، رغم أن أفضلهم (بطرس ويوحنا)، قيل عنهما «إِنْسَانَانِ عَدِيمَا الْعِلْمِ وَعَامِّيَّانِ» (أعمال ٤: ١٣)، فالمسيح لا يشترط الخبرة، ولكن الإخلاص.

الكفاءة

وليس هذا فقط، ولكن هؤلاء الصيادين كانوا في قمة الفشل الوظيفي، والنفسي أيضًا؛ فقد خرجوا من السفنتين، وغسلوا الشباك من طعوم الأسماك، وحينها نقرأ «وَلَمَّا فَرَغَ (المسيح) مِنَ الْكَلاَمِ قَالَ لِسِمْعَانَ: “ابْعُدْ إِلَى الْعُمْقِ وَأَلْقُوا شِبَاكَكُمْ لِلصَّيْدِ”. فَأَجَابَ سِمْعَانُ وَقَالَ لَهُ: “يَا مُعَلِّمُ، قَدْ تَعِبْنَا اللَّيْلَ كُلَّهُ وَلَمْ نَأْخُذْ شَيْئًا. وَلكِنْ عَلَى كَلِمَتِكَ أُلْقِي الشَّبَكَةَ”» (لوقا ٥: ٤، ٥).

ورغم عدم منطقية أمر المسيح؛ فوقت الصيد المعروف في الليل، وقد حاولوا فيه دون جدوى، إلا أنهم اتكلوا على كلمة المسيح، ولم يقولوا له: هذا ليس تخصصك، فأنت نجار ونحن صيادون. وكانت نتيجة هذا الإيمان مذهلة زمنيًا «وَلَمَّا فَعَلُوا ذلِكَ أَمْسَكُوا سَمَكًا كَثِيرًا جِدًّا، فَصَارَتْ شَبَكَتُهُمْ تَتَخَرَّقُ ... فَأَتَوْا وَمَلأُوا السَّفِينَتَيْنِ حَتَّى أَخَذَتَا فِي الْغَرَقِ» (لوقا ٥: ٦، ٧)، ويا لها من فرحة كبيرة بعد ليلة يائسة!!

أما عن النتائج الروحية، فكانت أهم بكثير؛ ومنها أنهم عرفوا حقيقة أنفسهم، لدرجة أن بطرس خَرَّ للرب داخل السفينة معترفًا: «اخْرُجْ مِنْ سَفِينَتِي يَا رَبُّ، لأَنِّي رَجُلٌ خَاطِئٌ!» (لوقا ٥: ٨)، وكذلك فالتلاميذ عرفوا حقيقة قائدهم، فنقرأ «وَلَمَّا جَاءُوا بِالسَّفِينَتَيْنِ إِلَى الْبَرِّ تَرَكُوا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعُوهُ» (لوقا ٥: ٨، ١١).

وهنا لنا درس هام جدًا، فعلى من يريد اتباع المسيح، وأن يكون تلميذًا وفيًا له، ألا يثق في كفاءته الشخصية مهما كانت، ولكن يضع كل ثقته وإيمانه في كفاءة المسيح نفسه، فيسلمه حياته، ومستقبله، وكل ما يملكه، متكلاً على محبته، وحكمته، وقدرته، فالمسيح لا يشترط الكفاءة، ولكن الإيمان.

المعرفة

وذات القصة ذُكرها متى هكذا «وَإِذْ كَانَ يَسُوعُ مَاشِيًا عِنْدَ بَحْرِ الْجَلِيلِ أَبْصَرَ أَخَوَيْنِ: سِمْعَانَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ بُطْرُسُ، وَأَنْدَرَاوُسَ أَخَاهُ يُلْقِيَانِ شَبَكَةً فِي الْبَحْرِ ... فَقَالَ لَهُمَا: هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلُكُمَا صَيَّادَيِ النَّاسِ. فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا الشِّبَاكَ وَتَبِعَاهُ. ثُمَّ اجْتَازَ مِنْ هُنَاكَ فَرَأَى أَخَوَيْنِ آخَرَيْنِ: يَعْقُوبَ بْنَ زَبْدِي وَيُوحَنَّا أَخَاهُ، فِي السَّفِينَةِ مَعَ زَبْدِي أَبِيهِمَا يُصْلِحَانِ شِبَاكَهُمَا، فَدَعَاهُمَا. فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا السَّفِينَةَ وَأَبَاهُمَا وَتَبِعَاهُ» (متى ٤: ١٨-٢٢).

ونلاحظ هنا أن عرض المسيح لهؤلاء الصيادين كان في منتهى العجب؛ فالوظيفة غامضة (صيادي للناس)، والأجر غير معلوم، ومكان العمل مجهول، ومدة العقد غير محددة؛ وبالتأكيد كان بداخلهم عشرات الأسئلة التي تحتاج الإجابة عليها، ولكن من تأثير هيبة المسيح الشخصية، ومن سابق المعرفة العملية لبعضهم به، اتخذوا القرار ثابتين وغير نادمين، فالمسيح لا يشترط المعرفة، ولكن الطاعة.

الغِنى

أما مرقس فيضيف لنا تفصيله هامة عن يعقوب ويوحنا ابني زبدي، فنقرأ «فَدَعَاهُمَا لِلْوَقْتِ. فَتَرَكَا أَبَاهُمَا زَبْدِي فِي السَّفِينَةِ مَعَ الأَجْرَى وَذَهَبَا وَرَاءَهُ» (مرقس ١: ٢٠)، ومن هذا نستنتج أنهما كانا أغنى ماديًا من سمعان وأندراوس، لأنهما من أصحاب السفن، ولديهم أجرى يعملون عندهم.

ورغم أن أي قائد مكان المسيح، سيسعى لاختيار تلاميذ من الأغنياء، لكي يدعموا خدمته، أو على الأقل لا يعول هم إعالتهم، لكن المسيح النزيه لا يفرق معه المستوى المادي أو الاجتماعي لتلاميذه، فكما دعا سمعان وأندراوس الفقيرين، فتركا «الشباك» حيث الأمان المادي لهما وتبعاه، كذلك دعا يوحنا ويعقوب الغنيين، فتركا «أبهما» حيث الأمان العائلي وتبعاه أيضًا؛ فالمسيح لا يشترط الغنى، ولكن الترك.

ما أميزك أيها المسيح القائد ... 
لا تشترط أن يكتب تلاميذك في سيرته الذاتية  CV كفاءته ... أو خبرته ... أو مكان عمله السابق ... 
فأنت لا تبحث فيهم عن كفاءة، أو خبرة، أو معرفة، ولكنك تبحث في تلاميذك عن إخلاص بلا رياء ... 
وإيمان بلا شك ... وطاعة بلا تجزئه ... وترك بلا تردد.