الغيرة الرديئة وروح التنافس عاطفة أنانية مؤذية لصاحبها بأحاسيسها وعواقبها، من أعمال الجسد المُرة، والمضرِّة. وهي مواد ملتهبة وحارقة مذابة في مشاعر.
أولاً:خطورة الغيرة وقسوتها
إن سيطرت على صاحبها سببت له انخفاض في بهجة القلب وتجعل أركان المحبة تتآكل، فهي مثل السوس؛ تنخر في العلاقات بصفة خاصة وتفسدها، سواء العائلية أو الاجتماعية أو الكنسية. كما أنها وقود الحسد، وتقود للنميمة والتحزب. تطفئ المحبة الأخوية، وكثيرًا ما تكبِّر الأخطاء الصغيرة وتتلذذ بفضح عيوب الآخرين، ونشر الإشاعات، وتساهم في التشويش وإثارة المتاعب، وزرع الخصومات. بصيغة أخرى: الغيرة حين تنمو وتتمكن، تلد خمس بنات: نميمة، تشويش، خصام، تحزب، انشقاق. فالغيرة من شخص ناجح أو محبوب قد تجعل البعض يتجاهلونه عمدًا ويفرحون بغيابه من المشهد، وإن أتيحت لهم الفرصة أن يبدوا رأيهم غالبًا ما يصرحون أو يلمحون لكل ما ينقصه دون الإشارة لما يستحقه من مدح! الغيرة إن غزت الذهن والقلب، تصبغ الأفكار والمشاعر بصبغتها. قد تجعل الإنسان يغضب ويقتل كما فعل قايين، وكما سعى شاول الملك ليتخلص من داود. لكن كم يكون الأمر مؤسفًا حين يكون بين فريق للخدمة أو إخوة، كما نراها في هارون ومريم عندما تكلما على موسى!
ثانيًا: خداع الغيرة ومكرها
دائمًا تتستر وراء شعارات أخرى، محاولة بمكر ألا تكون ثقيلة على ضمير صاحبها، والطامة الكبرى حين تجعل صاحبها يطعن في الآخرين بصورة غير مباشرة، أو يخوض حرب كلامية في أحيان كثيرة تحت مسميات عالية، أو من أجل فضائل يتشدق بها؛ وفي أغلب الأحيان يكون هو شخصيًا أبعد ما يكون عنها. من الضروري أن يمتحن الإنسان مشاعره ومواقفه تجاه الآخرين في حضرة الله ووفقًا لمبادئ الله وفكره. المؤمن الحكيم هو الذي له حواس مُدربة على التمييز بين الخير والشر، فإن اشتمَّ رائحة شيء من أعمال الجسد سرعان ما يحكم عليه بالصلب أولاً بأول لئلا يذوق هو وغيره من مراره وشره!! ما أردأ الجسد وأعماله! لذلك لا تستأمن مشاعرك ولا ميولك دائمًا. اسمع تقرير الكتاب عن القلب البشري بالطبيعة «اَلْقَلْبُ أَخْدَعُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ نَجِيسٌ، مَنْ يَعْرِفُهُ؟ أَنَا الرَّبُّ فَاحِصُ الْقَلْبِ مُخْتَبِرُ الْكُلَى لأُعْطِيَ كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ طُرُقِهِ» (إرميا١٧: ٩، ١٠). كلمة الله كشفت لنا عن منبع هذه المشاعر كما ورد في غلاطية٥: ١٩ »وَأَعْمَالُ الْجَسَدِ ظَاهِرَةٌ، الَّتِي هِيَ: ... غَيْرَةٌ». وفي يعقوب٣: ١٤ يقول: «وَلكِنْ إِنْ كَانَ لَكُمْ غَيْرَةٌ مُرَّةٌ وَتَحَزُّبٌ فِي قُلُوبِكُمْ، فَلاَ تَفْتَخِرُوا وَتَكْذِبُوا عَلَى الْحَقِّ».
ثالثًا: التحصين الواقي اللازم
الشخص الصادق مع نفسه هو الحريص أن يفحص نفسه في محضر الله، يمكنه بسهولة تشخيص هذا الداء حين يرى بوادر أعراض هذا المرض الأدبي الرديء. هناك وسائل للتخلص من روح الغيرة وتُعَد بمثابة أدوية روحية كافية للقضاء عليها وتحصين واقٍ منها، ويجدها المؤمن مرغوبة طالما كان سالكًا بالروح في حياة القداسة العملية:
١- المحبة الشديدة من القلب: المؤمن الأمين اليقظ، حين يرى الغيرة الرديئة تطل برأسها، يلقي القبض عليها في الحال ويطرحها خارج قلبه، ويملأ مكانها محبة ثم يمكِّن المحبة، ثم يزيد المحبة. المحبة الكاملة بمثابة مضاد حيوي قوي المفعول، تحدّ من جراثيم (منتجات) الجسد وتعوق انتشارها. كم نحتاج أن نزداد في المحبة، ونمتلئ بها حتى تفيض وتتدفق لبعضنا البعض!! حينها سنكون شاكرين الرب على نعمة الله المتنوعة التي وهبت عطايا لنا ولغيرنا، وجمَّلت اخوتنا وكملَّت نقائصنا فيهم. المودة الأخوية تنتعش في جو التقوى. إن غابت مخافة الرب من الحياة، غربت شمس المحبة منها. المؤمن التقي هو الذي يحب الجميع من قلب نقي بمحبة شديدة عديمة الرياء؛ ويرجو للجميع كل الخير والبركة.
٢- القناعة بما قسمه الرب: القناعة زينة وجمال، وهي دواء حلو المذاق والترياق اللازم ضد الغيرة، وبها يُشفى الإنسان من عِلل كثيرة. يقول الكتاب إن القناعة مع التقوى تجارة عظيمة، فالقلب القانع هو قلب راضي وشبعان، وبالتالي ستخلو الحياة من المطامع الشخصية؛ وتمتلئ بالقداسة ومراعاة مصالح الرب، وبالتبعية ستتحقق أرباح عظيمة للمؤمن وللرب. المؤمن القانع بما قسم له الرب يشبع رضا. روح القناعة وروح الغيرة لا يجتمعان في نفس واحدة، لذلك كن قنوعًا وراضيًا بما قسم الله لك، وكن محبًا للجميع، وشاكرًا الرب على كل شيء؛ ومن أجل كل شخص حباه الرب بأشياء ثمينة ليستخدمها فتكون سبب بركة لك ولغيرك.
٣- الثقة في صلاح الله، وقبول مشيئته: من أسباب الغيرة الشعور بالنقص وقلة القيمة وعدم القبول وضعف التأثير ومحدودية النفع... لكن السبب الأقوى هو غياب القناعة التي سبق الكلام عنها. أمران يدعمان قناعتنا، الأول هو الثقة في صلاح الرب وصلاح مشيئته، والأمر الثاني هو الشكر على كل شيء.
عزيزي.. ثق أن الرب صالح دائمًا حتى لو بدا لك أنه حرمك من ميزة كنت تتمنى أن تكون لديك. كلما زادت ثقتك في صلاح الرب وإدراكك أن الرب له قصد خاص في حياتك بكل ما فيها من احتياجات وتحديات؛ ستقبل مشيئته ولا تنشغل كثيرًا بما لدى غيرك. الذي ينشغل بما يجري حوله أكثر من تركيزه على طريقه؛ لن تخلو سكة حياته من صدامات مع الآخرين؛ تؤلمهم كما تؤلمه، علاوة على أن الوقت الثمين الذي يضيع من العمر والطاقة التي تهدر لا يمكن تعويضهما. يقول الحكيم: «لِتَنْظُرْ عَيْنَاكَ إِلَى قُدَّامِكَ، وَأَجْفَانُكَ إِلَى أَمَامِكَ مُسْتَقِيمًا. مَهِّدْ سَبِيلَ رِجْلِكَ، فَتَثْبُتَ كُلُّ طُرُقِكَ. لاَ تَمِلْ يَمْنَةً وَلاَ يَسْرَةً. بَاعِدْ رِجْلَكَ عَنِ الشَّرِّ» (أمثال٤: ٢٥ ٢٧). وبقدر ما تنفتح أعيننا على صلاح الله ستكون كل هذه الأمور بأتعابها وحيرتها مادة شكرنا وسجودنا لأننا نعلم أنه يعمل دومًا لخيرنا وأفكاره من نحونا صالحة ومقاصده صالحة كشخصه.
٤- الشكر على كل شيء: اشكر الرب كثيرًا من أجل كل ما أعطاك الرب؛ فالقلب الممتن قلب مطمئن، لأن الشكر على كل شيء يجعل سلام الله يملك على قلوبنا. كما أشجعك أن تشكر الرب على الوزنات والمواهب والفرص التي عند أخيك، حتى لو لم تكن لديك، لأن الله استودعها له وائتمنه كوكيل عليها لكي يستخدمها من أجل بركتك وتقدمك في نهاية الأمر. صلي من أجله حتى يكون أمينًا في وكالته. أما أنت فلا تستنزف طاقتك في مراقبة وتقييم الآخرين، استثمر ما عندك أيضًا من أجل نمو وتقدم اخوتك. وهكذا، (بروح المحبة) نخدم بَعضُنَا بعضًا.