دائمًا كنت أتساءل: لماذا لم يعمل الرب مدينة على الأرض يسكنها فقط المؤمنين الأتقياء، بلا إزعاج أو أشرار؟!
بالتأكيد هي فكرة رائعة ومريحة لأولاد الله، وسوف نراها في المستقبل وليس الآن!! فالله له هدف عظيم من وجود المؤمنين الأتقياء وسط عالم الأردياء، ليكونوا كما أعلن هو في موعظة الجبل: ملح للأرض!
ترى لماذا استخدم الرب يسوع هذه الكلمة “ملح”، ليصوِّر بها المؤمنين؟!
١. من ناحية المظهر: فالملح أبيض نقاوته عالية وذراته صغيرة، ترى فيه البساطة المتناهية، وغالبًا غير مُقدَّر من الناس لرخص ثمنه. وهكذا المؤمنين رغم بساطتهم لا يقدّرهم العالم!
٢. من ناحية التأثير الرائع: ما أعظم تأثيره القوي! فهو الذي يعطي مذاقًا للطعام، كما قال أيوب «هَلْ يُؤْكَلُ الْمَسِيخُ بِلاَ مِلْحٍ؟» – يقصد الطعام العديم الطعم لأنه بلا ملوحة – (أيوب٦:٦). هكذا المؤمنين أيضًا، أوجدهم الله وسط الناس ليعطوا طعمًا ومذاقًا للإنسانية والبشرية.
٣. الملح يحفظ من الفساد: معروف أن الملح يحدّ من نشاط البكتيريا ويوقف التعفن، ووجود المؤمنين الحقيقيين الذين يسكنهم روح الله وسط العالم، يقدمون المسيح الذي يحد من انتشار فساد الخطية.
والسؤال هو: كيف يكون المسيحي الحقيقي مؤثرًا وهو يعيش في عالم موضوع في الشرير مواجًا طوفان من التيارات المعاكسة والقيم الهابطة؟!
أولاً: التأثير السلبي “المنع”
فالملح يمنع انتشار الخطية. من منا لا يلاحظ انحدار العالم الشديد نحو الفساد بلا أخلاقيات! «حَنْجَرَتُهُمْ قَبْرٌ مَفْتُوحٌ. بِأَلْسِنَتِهِمْ قَدْ مَكَرُوا. سِمُّ الأَصْلاَلِ تَحْتَ شِفَاهِهِم وَفَمُهُمْ مَمْلُوءٌ لَعْنَةً وَمَرَارَةً» (رومية٣: ١٣). ولو تُرك هذا العالم والناس لأنفسهم، فسرعان ما يصبح كالسمكة الفاسدة النتنة!! لكن الله في رحمته أوجد ملحًا يحدّ من هذا الفساد هو المؤمنين الحقيقيين. وإليك بعض الأمثلة:
١- بولس وسيلا في فيلبي (أعمال١٦)
في تلك المدينة الكبيرة التي امتلأت بالشر والسحر، استخدم الرب الرجلين ليكونا بصدق ملحًا. فعند النهر تكلم بولس بكلمة الله، وهناك سمعت ليديا بائعة الأرجوان ففتح الرب قلبها وخلصت. كما أن الرب استخدمهما أيضًا لخلاص وتحرير جارية مسكينة كانت تعمل في العرافة، من روح شرير. وهناك أيضًا في فيلبي تقابلا مع السجان الروماني القاسي، وهو ينوي الانتحار، وبشراه بالرب يسوع المسيح فخلص (أعمال١٦: ٣٤).
٢- الرسول بولس في أفسس (أعمال١٩)
زارها بولس فوجد نوعين من الشرور يسيطران على قلوب الناس: العبادة الوثنية ممثلة في معبد أرطاميس والمعروفة “بالإلهة ديانا”، والسحر والأعمال الشيطانية. نادى هناك بالرب يسوع المسيح مُخلِّصًا، وما أروع التأثير الإلهي من خلال خدمته التي أثمرت بنتائج مباركة كما يسجل سفر الأعمال «فَلَمَّا سَمِعُوا اعْتَمَدُوا بِاسْمِ الرَّبِّ يَسُوعَ. وأيضًا وَكَانَ كَثِيرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَأْتُونَ مُقِرِّينَ وَمُخْبِرِينَ بِأَفْعَالِهِم وَكَانَ كَثِيرُونَ مِنَ الَّذِينَ يَسْتَعْمِلُونَ السِّحْرَ يَجْمَعُونَ الْكُتُبَ وَيُحَرِّقُونَهَا أَمَامَ الْجَمِيعِ. وَحَسَبُوا أَثْمَانَهَا فَوَجَدُوهَا خَمْسِينَ أَلْفًا مِنَ الْفِضَّةِ. هَكَذَا كَانَتْ كَلِمَةُ الرَّبِّ تَنْمُو وَتَقْوَى بِشِدَّةٍ» (أعمال١٩: ٥، ١٨-٢٠). فما أعظم تأثير هذا الملح في مدينة فاسدة، أوقف الله من خلال خدمة المؤمنين نمو وانتشار الفساد.
ثانيًا: التأثير الإيجابي “يمنح”
الملح يعطي طعمًا جميلاً للطعام وهكذا المؤمنين الحقيقيين، وجودهم يشيع الفرح والرحمة والراحة لمن حولهم. وهذا ما لمسه الكثيرين في حياة يوسف (تكوين٣٧-٥٠) نذكر البعض من هذا التأثير الإيجابي على الآخرين:
١. عندما بيع يوسف عبدًا لفوطيفار في مصر، يذكر سفر التكوين لنا «أنَّ الرَّبَّ بَارَكَ بَيْتَ الْمِصْرِيِّ بِسَبَبِ يُوسُفَ. وَكَانَتْ بَرَكَةُ الرَّبِّ عَلَى كُلِّ مَا كَانَ لَهُ فِي الْبَيْتِ وَفِي الْحَقْلِ «(تكوين٣٩: ٥).
٢. في السجن: وحتى عندما أفتُري عليه ودخل السجن كان هناك “ملحًا” مؤثرًا ذي طعم مؤثر في من حوله، «وَلَكِنَّ الرَّبَّ كَانَ مَعَ يُوسُفَ وَبَسَطَ الَيْهِ لُطْفا وَجَعَلَ نِعْمَةً لَهُ فِي عَيْنَيْ رَئِيسِ بَيْتِ السِّجْنِ»، حتى أنه كان يخدم المساجين مشجعًا إياهم مفسرًا لهم أحلامهم، فنقرأ عنه «وَلَمْ يَكُنْ رَئِيسُ بَيْتِ السِّجْنِ يَنْظُرُ شَيْئا الْبَتَّةَ مِمَّا فِي يَدِهِ لانَّ الرَّبَّ كَانَ مَعَهُ وَمَهْمَا صَنَعَ كَانَ الرَّبُّ يُنْجِحُهُ» (تكوين٣٩: ٢١، ٢٣).
٣. في قصر فرعون: لعب يوسف دورًا جميلاً مؤثرًا؛ فأول كل شيء قدَّم شهادة سباعية جميلة عن الله في هذا القصر الوثني، حتى أن فرعون تأثر بشهادته عن الله فتكلم مثله مرددًا اسم الله «فَقَالَ فِرْعَوْنُ لِعَبِيدِهِ: هَلْ نَجِدُ مِثْلَ هَذَا رَجُلا فِيهِ رُوحُ الله ثُمَّ قَالَ فِرْعَوْنُ لِيُوسُفَ: بَعْدَ مَا اعْلَمَكَ اللهُ كُلَّ هَذَا لَيْسَ بَصِيرٌ وَحَكِيمٌ مِثْلَكَ». كما كان ليوسف تأثيره الحلو أيضًا على كل أرض مصر، حيث أنه أطعمها والبلاد المجاورة في سني الجوع السبعة «وَجَاءَتْ كُلُّ الارْضِ الَى مِصْرَ الَى يُوسُفَ لِتَشْتَرِيَ قَمْحا لانَّ الْجُوعَ كَانَ شَدِيدا فِي كُلِّ الأرْضِ» (تكوين٤١: ٣٨، ٣٩، ٥٧).
هل لنا هذا التأثير الواضح فيما حولنا ومن حولنا سلبًا أو إيجابًا؟ هل نقدِّم المسيح الذي يوقف الفساد في القلوب، ويبارك حياة الأخرين؟
تحذير خطير!
«أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ وَلَكِنْ إِنْ فَسَدَ الْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُمَلَّحُ؟ لاَ يَصْلُحُ بَعْدُ لِشَيْءٍ إِلاَّ لأَنْ يُطْرَحَ خَارِجًا وَيُدَاسَ مِنَ النَّاسِ» (متى٥: ١٣)، هذا ما حذر به الرب يسوع سامعيه في عظة الجبل، ترى ماذا كان يقصد به؟!
١. إن الوضع الطبيعي أن يكون هناك اختلاف بين الملح وغيره، هكذا هو الحال للمؤمنين بالمسيح، فلا بد من وضوح الاختلاف الفكري والسلوكي عن كل الباقين، حتى ولو لم يعجب الأشرار.
٢. لكن وآسفاه هناك بعض المؤمنين فقدوا تأثيرهم وشهادتهم وتمَّيزهم، بل وشابهوا البيئة الفاسدة التي حولهم. ويا للحسرة، صاروا مثل سدوم وشابهوا عمورة، أصبحوا كلوط الذي فقد شهادته فأصبح كمازحًا في أعين الناس وأصهاره.
٣. لا يقول الرب إن المؤمن الذي يفقد تأثيره وشهادته يفقد خلاصه، كلا وألف كلا، بل يصبح في العالم عديم النفع، فيفقد الكرامة بين الناس، وهذا معنى الكلمة «وَيُدَاسَ مِنَ النَّاسِ»، وقد يضطر الرب أن ينهي وجود مثل هذا في العالم أيضًا.
إخوتي الأحباء؛ لقد شرفنا الرب، بعد أن خلَّصنا بنعمته، أن يجعلنا بركة وشهادة وسط هذا العالم، ومنحنا بروحه تأثيرًا فعالاً كالملح تمامًا، إنه امتياز خطير ومسؤولية كبيرة! نحتاج لقوة الروح القدس والشبع بكلمة الله، فنُحفظ من شرور العالم ونكون ملحًا للأرض، نقدم المسيح لمن حولنا كالمُحرر والمُخلص من فساد الخطية، بل وأيضًا شبع وسرور وفرح كل القلوب.